الكلام عن الصديقة خالدة سعيد هو كلام عن تاريخ تعدّدت معانيه وتنوّع ثراؤه. وقد عرفتُ فيها هذا الثراء منذ لقائي الأول بها في كليّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة/ الفرع الأول. كان ذلك في زمن الحرب اللبنانيّة (١٩٧٧)، والسنة الأولى لانتسابي إلى الجامعة. وقد لفتني، يومها، هدوؤها وإقبال الطلاب على محاضراتها، فراح حضورها الذي يشبه السرّ، يحتلُّ مكانة خاصّة عندي. في عام ١٩٧٩، صدر لخالدة عن «دار العودة» كتابها «حركيّة الإبداع. دراسات في الأدب العربي الحديث» وقد أهدته: «إلى أدونيس وأرواد ونينار». وكان هذا الكتاب بمثابة كتابها الأول، ربما لفارق القيمة والزمن بينه وبين كتابها السابق «البحث عن الجذور» الذي صدر عام ١٩٦٠.
في ١٩٨٠/٣/٩، أهدتني نسخة من كتابها «حركيّة الإبداع...»، فكانت قراءتي لهذا الكتاب سبيلي لمعرفة خالدة الباحثة بصفتها من أوائل، إن لم تكن أوّل، من قدَّم معرفة جديّة بالنقد الحديث المرتكز، من ثمَّ، إلى البنيويّة.
لقد أفادت خالدة من البنيويّة، لكن إفادتها لم تكن تطبيقاً شكلانيّاً، شأن كثر ممَّن تأثروا بمفاهيم البنيويّة، أو التزموا بتطبيقها. ففي كتابها «حركيّة الإبداع» الذي قدَّمت فيه عدداً من الدراسات لنصوصٍ من أدب النهضة، نلاحظ، بدايةً، حرصها على إظهار هويّة النصّ الأدبي ومرجعيّة دلالاته في الواقع. ثم، ومع تغيّر بنى هذه النصوص، نجدها في تحليلها لها، تستعين ببعض ما قدّمته البنيويّة من مفاهيم، كدراستها للزمن والشخصيّات في رواية «ما تبقى لكم» لغسّان كنفاني.
صامتة عرفتُها، أو قليلة الكلام، ولكنها كانت تفاجئني بنبرتها الحاسمة حين يتعلّق الأمر بحقٍّ أو حقيقة. أذكر، على سبيل المثال، موقفها الجريء يوم اكتشفتْ أن أحدهم أدرج نصّاً لها في كتاب له من دون أن يشير إلى كتابها باعتباره مرجعاً.
ومخلصة كانت في تعاملها مع زملائها، فهي التي نبهتني، ذات يوم، إلى حقّي في الحصول على ترقية جامعيّة، وأرشدتني إلى ما عليَّ أن أقدِّمه من مستندات. وهي التي أبتْ أن تأخذ إجازة من دون راتب بداية سفرها إلى باريس، وفضّلت الاستقالة وخسران تعويض نهاية الخدمة، في حين كان بعضهم يتوسّل أكثر من طريقة، لا قانونية، لتغطية غيابه بغية الاستمرار في الحصول على راتب لا يستحقّه.
خالدة الباحثة والأديبة والأستاذة الجامعيّة هي أيضاً الأم والزوجة وربّة البيت المثاليّة الشجاعة التي لا يعرفها إلّا قلّة من الأصدقاء.
أتذكّرُها جالسةً، إلى جانب أدونيس، هادئة، يوم كانت قذائف الجيش الإسرائيلي (حزيران ١٩٨٢) تنهال على بيروت من المدينة الرياضيّة، وتهزّ منزلهما في الطابق الرابع من المبنى القريب، هوائيّاً، من المدينة الرياضيّة. فيهتزّ منزلهما، ويتكسّر زجاج بعض نوافذه، وينزاح عن مكانه كلُّ ما عُلِّق على جدران الصالة الرحبة من لوحات فنيّة لأكثر من فنّان وفنّانة. سألتهما وقتها، وقد لُذت بمنزلهما القريب من مبنى قسم اللغة العربية حيث فاجأتني الغارة:
«كيف لم تنزلا إلى ملجأ البناية!!»؟
«أن نموت هنا أفضل من الموت تحت الركام» قال أدونيس.
بيت خالدة وأدونيس، أحب أن أقول، وأعطف أدونيس على خالدة، فأنا أتكلم عنها، هي، الآن... هي سيدة البيت التي كانت تملأ المائدة بأطيب أنواع الطعام يوم كان أدونيس يدعو بعض الأصدقاء، من الأدباء والشعراء، إلى لقاء ثقافي في منزلهما العامر بالضيافة.
هي خالدة... الأنثى التي كانت من أوائل، إن لم تكن أول من ألقى الضوء على شعر أدونيس. وهي التي كتبت تحت عنوان «في البدء كان المثنى» كتاباً ارتكزت فيه إلى ثنائيّة وجود الإنسان، لتوضح الظلم التاريخي الذي أصاب الأنثى من الذكر، ولتلقي الضوء، من ثمَّ، على إبداع المرأة في أكثر من مجال من مجالات الأدب والفن: في الرواية والشعر والنقد والرسم والنحت... وقد أهدت كتابها هذا إلى والدها، بصفته الذكر المختلف، الذي كان يقول لها:
«لا فضل لإنسان على إنسان بجنسه، بل بعلمه وأعماله»
هي خالدة التي أحبّتْ بيروت، فكتبت تحت عنوان: «يوتوبيا المدينة المثقفة» كتاباً ثريّاً أهدته: «إلى بيروت في الأزمنة كلها». وقد درست فيه، كما جاء على صفحة الغلاف الثانية ذكر «خمس مؤسّسات ثقافيّة طليعيّة رائدة نهض بها أفرادٌ في لبنان». هذه المؤسسات هي: «الندوة اللبنانيّة»، «التجمع الفيروزي الرحباني»، مجلة «شعر»، مجلة «مواقف»، «دار الفن والأدب»، إضافة إلى إلقائها الضوء على ما قام به، حسب قولها، مثقفون كبار، أمثال المطران خضر، والشاعر أنسي الحاج، والشاعر محمود درويش، والروائي غسان كنفاني وآخرين.
هي خالدة... تاريخ من العطاء. كتبتْ بجديّة وحب، ورأت تاريخيّة الأدب الحديث باعتبارها «حركيّة» إبداع، فسجلت بذلك اختلافها عن الذين رأوا في الأدب «انعكاساً للواقع». تقول:
«بدأتْ تباشير الحداثة العربيّة في الأدب مع التطلعات الأولى لانتزاع التعبير من أسر المطلق والنظر إليه كفاعليّة تاريخيّة». ثم، مستندة إلى قولها هذا، تدعو إلى «إعادة الاعتبار للإبداعيّة الإنسانيّة والنظر إلى الإبداع على أنّه فاعليّة أساسيّة»، أي أنه «نتيجة تعارضٍ وانقطاع بين الواقع القائم وطموح الذات (الفرديّة والجماعيّة) إلى واقع غير متحقّق».
تتجاوز المنهجيّة في قراءة الشعر، وترهن دلالات النص بقارئه، أو بما سمته «التلمّس»، أي بما يتلمّسه القارئ، من دلالات ومعالم جماليّة


هي خالدة التي أصدرت كتابها الجميل «فيض المعنى» (٢٠١٤ دار الساقي) واستهلّته بما سمته: «بيان القراءة الناقصة»، وتعني بالقراءة الناقصة: القراءة التي تتلمّس أطيافاً من دلالات النص وملامحه، ولا تدّعي «القبض على المعنى الأخير»، بل ولا تؤمن «بإمكان ذلك».
تتجاوز خالدة المنهجيّة، أية منهجيّة، في قراءة الشعر، وترهن دلالات النص بقارئه، أو بما سمته «التلمّس»، أي بما يتلمّسه القارئ، من دلالات ومعالم جماليّة، في قراءته للنص.
بهذا المفهوم للقراءة، قدّمت خالده ما اعتبرته أطيافاً من الدلالات، ومن الملامح الجماليّة التي «تلمّستِها» في ما قرأته، في كتابها «فيض المعنى»، من نصوص شعريّة لكلٍّ من: أنسي الحاج، عباس بيضون، زليخة أبو ريشة، أمجد ناصر، عبد العزيز المقالح، وديع سعادة، عبد المنعم رمضان، عبده وازن، حسب الشيخ جعفر، محمد بنّيس، جودت فخر الدين، وسنية صالح.
تثري خالدة مفهوم «التلمس» بما قاله أبو نواس:
«غير أنّي قائلٌ ما أتاني من ظنوني مكذبٌ للعيان
آخذاً نفسي بتأليف شيءٍ واحد في اللفظ شتّى المعاني
قائمٍ في الوهم حتى إذا ما رمتُه، رُمتُ معمَّى المكان»
وشارل بودلير: «الجمال غريبٌ دائماً».
وغاستون باشلار: «أن تقرأ يعني أن تحلم».
ورولان بارت: «الكتاب يبدع المعنى، المعنى يبدع الحياة».
وعبد العزيز المقالح: «إنَّ الهوى كَلِفٌ بالرموز».
هي خالدة أخيراً وليس آخراً التي أنجزت موسوعتها الضخمة والقيّمة «الحركة المسرحيّة في لبنان ١٩٦٠ ــ ١٩٧٥»، والتي قدمتْ فيها معرفة موثّقة ودقيقة بالمسرح وهويّته، كما بالمسرحيّين ممثلين ومخرجين، بمبدعي النصوص وناقليها إلى العربيّة، بالمسار وعناء تحقيق الأماني والأحلام... أي ما يشكل مرجعاً، لا غنى عنه، لكل باحث أو طالب معرفة بما قدمه المسرح والمسرحيون في لبنان فترة تأسيسه ونهوضه.
خالدة... شكراً لعطاءاتك التي أثرتْ نتاجات الأدب والفن العربييْن، وأضافتْ إلى قيمهما قيمة، وإلى جماليّتهما جمالاً.

* كاتبة وناقدة لبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا