لطالما تم التفريق بين تاريخ الأديان كفرع من علم التاريخ وعلاقته بعلم الأديان، وبين الرواية التاريخية الدينية كمجال لعلوم اللاهوت والميثولوجيا التي ذُكرت في كتب الأديان المقدسة وحُفظت مع حفظ كُتُبها. فالأول هو علم متطوّر ومتقلب اعتماداً على الكشوفات الأثرية على أنواعها. أما الثاني، فهو ثابت لا يخضع للمراجعة والتعديل، بعدما أصبح أيضاً، علم الأديان أحد العلوم الإنسانية منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، شأنه في ذلك شأن علم الاجتماع وغيره، والذي يدرس بدوره الأديان دراسةً علميّةً منهجيةً كعلم حيادي غير منحاز. إلّا أن اللغط المقصود حيناً وغير المقصود أحياناً أخرى، ما زال موجوداً، ومحاولات تطبيع الرواية التاريخية الدينية مع واقع الآثار وعلم تاريخ الأديان العام حثيث، ليثبت، إما مصداقية هذه الأديان وبالتالي زيادة الثقة بما تم الإيمان به للجماعة المؤمنة بها، وإما لإثبات حصول أحداث ووجود جماعات فعلاً في ممالك ما في أزمان معينة على أرض الواقع. إلّا أنّ المفارقة العظيمة بين تاريخ الأديان والرواية التاريخية الدينية تجعل من إمكانية تحقيق ذلك مستحيلاً حتى اللحظة، لنصل إلى استنتاج أن محاولة تطبيع الروايات التاريخية الدينية وأساطيرها مع واقع الآثار لن يؤدي، حتى إثبات العكس، إلا إلى تقليل مصداقية ما ورد فيها وبالتالي تضليل المؤمنين بالفكرة. لم يسلم واقع الجماعات الحيّة اليوم من محاولات استغلال أساطير وروايات تاريخية دينية لإثبات وجودها التاريخي في مناطق معينة كحال دولة الاحتلال الإسرائيلي وعملها الحثيث في هذا الخصوص، بل اعتمادها على أعراق تعود إلى محدّدات روايات دينية تثبت وجودها التاريخي الفعلي على جغرافيا محددة في المنطقة، لتضحي هذه الأعراق أشبه بـ «حقائق»، وتتحول إلى أحداث تاريخية بحكم الصيرورة التاريخية كالسامية والعداء لها، ضاربة بعرض الحائط العلم عامة وعلم الآثار خاصة الذي لم يستطع حتى اللحظة إثبات وجودها. (ويجب الانتباه إلى أن الإصرار على فكرة «حتى اللحظة»، إيماناً منا بالعلم مهما كانت النتائج لاحقاً). أمر وصل فيه الحد إلى أن يستخدم رئيس دولة كإيمانويل ماكرون أجزاء هذه الرواية التاريخية الدينية، في خطاب له أمام المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا CRIF في 20 شباط (فبراير) 2019، عند ربطه الساذج بين العداء للسامية والعداء للصهيونية. وفي خطاب آخر له، توجّه للجالية الفرنسية في مدينة القدس عام 2020، مواسياً إياها بأنّ العداء للسامية الذي يعانيه اليهود في فرنسا، موجود في فلسطين أيضاً! تصريح نابع عن جهل أو إغفال مقصود بأن الرواية التاريخية التوراتية ــ رغم عدم وضوحها التام وتضاربها بخصوص نسب العرق السامي ــ يُمكن لها بكل بساطة أن تشمل الفلسطيني أيضاً! (التكوين 9-10)
لا يمكن إدراك خطورة الفعل إلا بعد تحليل كيفية الرد وكيفية التعاطي مع روايات دينية كتلك، إذ يقوم بعضهم باستخدام روايات دينية أخرى تدحضها أو تنكر وجودها أو لا تعترف بها، عوضاً عن إعادتها إلى أصولها ومكانها الصحيح، كرواية دينية لا علاقة لها بالعلم، وبالتالي عدم مناقشتها كحقائق، والتركيز على العلم في المقابل. فتكذيبها لن يسعف في شيء. هي روايات تاريخية دينية موجودة في ذاك الكتاب المقدس كما يوجد غيرها من روايات مشابهة في باقي الكتب المقدسة التي يسقط عليها الحكم نفسه. لذا يجب تأطيرها ضمن قالب الرواية التاريخية الدينية إلى حين تحولها إلى حقيقة بالاعتماد على أدلة علمية أثرية.
ربط ماكرون بشكل ساذج بين العداء للسامية والعداء للصهيونية


تجدر الإشارة إلى أن السعي للفصل بين هذين القطبين لا يشكل أي تهديد على معتقدات بعضهم وإيمانهم بكتبهم المقدسة، بل على العكس، فالفصل يحفظ هذا الإيمان بدل إقحامه في مجال ليس من اختصاصه وغير قادر على مجاراته، وبالتالي زعزعته. وعلى أثره هناك ضرورة لتوقف الدين عن محاولات تقويل العلم ما ليس فيه، لإثبات صدق الدين ومنطقيته لتعزيز مصداقيته، لأنّه بمجرد دحض البحث العلمي أفكاراً يعتمد الدين عليها بالعلم، سيشكل ذلك تهديداً للدين والمتدين، كمحاولة ربط الصوم بصحة الجسد، أي ربط الفرض الديني بالبحث العلمي. هنا سيرتبط كامل سياق الفرض بالسبب العلمي. وعند إثبات البحث العلمي لعدم صحة هذه الفرضية (أي أن الصوم غير صحي)، سيتزعزع بطبيعة الحال الفرض الديني. كما يمكننا رؤية حالة معاكسة تماماً، هي محاولة تقويل الدين ما ليس فيه، كالاجتهاد في تفسيراته لإثبات تنبؤه السابق لنتائج العلم، رغم إثبات البحث العلمي خطأ العديد منها. لذلك، يجب التسليم بأن هذه الشرائع والفرائض والمحرمات لا أساس علمياً لها وموجودة كشرائع ذات سياقات تاريخية واضحة ومفسّر جزء كبير منها ولا علاقة لها بالعلم، وتمت ممارستها طيلة أزمان عديدة مضت عن قناعة وإيمان ومن دون محاولة عقلنة بأدلة علمية لها. كما هناك فرق بين علم الأديان الذي يحاول معالجة الظاهرة الدينية لفهمها وتفسيرها، وبين محاولة الدين البحث عن تفسير علمي لفرائضه من جل عقلنتها.
وأخيراً، يجب التنويه إلى أن علم تاريخ الأديان والآثار وعلم الأديان أي البحث العلمي، لا يهتم لمعتقدات وآراء وإيمان ومشاعر وأفكار الأشخاص الشخصية، أي أنّ تعارض الدين مع نتائج البحث العلمي ليس من شأن العلم، كما تعارض نتائج البحث العلمي مع معتقدات الأشخاص هو شأن الأشخاص وليس شأن العلم. وذلك يعود إلى الحالة الحيادية التي ينبغي للعلم والباحث أن يعيشها بمعزل عن أي نزعة ستحوّر البحث. وفي النتيجة، لن يجبر البحث العلمي الأشخاص على ممارسة معتقدات غير مؤمنين بها، كما في المقابل لا يمكن للأشخاص إجبار البحث العلمي على قول ما ليس فيه.
قد يبدو الأمر معقداً أو حساساً لدى البعض، أي موضوع فصل الدين عن البحث العلمي، إلا أنّ أهمية هذا الفصل هي أنه يضمَن تطوَر العلم من جهة ويحفظ «قدسية» وروحية هذه الأديان لدى أصحابها من جهة أخرى.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا