ترجمة وتحرير: سمير طاهر
تصف الكاتبة نعومي كلاين (1970) تعاطي إدارة ترامب مع أزمة فيروس كورونا في الولايات المتحدة بالقول: «إن ما يحدث هو تراجيديا جماعية، ولكنه أيضاً يشبه ما يحدث في موقع الجريمة». التصريح ورد في أحدث مقابلة صحافية معها، تحدثت فيها ـــ عبر الإنترنت ـــ إلى الصحافية السويدية ساندرا ستيسكالو في 2 نيسان (أبريل) 2020 ونُشرت المقابلة في صحيفة «داغينس نيهيتر» السويدية أخيراً. تعدّ كلاين أحد أكثر أصوات اليسار التقدمي الأميركي حدةً. وكانت مجلة «ذي نيويوركر» قد صوّرتها في عام 2017 بأنها بمثابة نعومي تشومسكي، وهوارد زين قبل ثلاثين سنة. إعطاؤها هذا الدور كان باعثاً على السخرية، فهي أصلاً كندية: صحيح أن لديها جنسيتين لكون والديها أميركيين، ولكنها لم تعِش في الولايات المتحدة سوى في العامين الأخيرين، مع زوجها صانع الأفلام الوثائقية آفي لويس، وابنها توماس (7 سنوات) في نيوجيرسي، إحدى أكثر الولايات إصابة بالفيروس.

تأجلت هذه المقابلة مرات عدة بسبب إصابتها بحمى وسعال شديد. تقول نعومي إن الأعراض متطابقة مع أعراض الفيروس، ولكنها ليست متأكدة، ولا فحص متاحاً للعامة لكي تقوم به. وأضافت أنّ «كثيراً من الناس سيموتون، مع إنه كان يمكن أن لا يموتوا لو أنّ إدارة ترامب قامت فقط بالاستعدادات الأكثر ضرورة. فعلى خلاف الصين، نحن لم نباغَت به، إذ كانت لدينا أشهر عدة لكي نستعد: ننتج كميات كبيرة من أقنعة الوجه ومواد الحماية، نجهز المستشفيات بالعاملين، نهيّئ أجهزة الفحص. لكنهم لم يفعلوا أي شيء من ذلك. وباعتقادي هذا إجرام».
حققت نعومي كلاين ظهوراً عالمياً عندما كانت في التاسعة والعشرين من العمر، عبر كتابها «لا شعار» (No logo) حول العلامات التجارية وسلطة الشركات متعددة الجنسية على العالم والثقافة. وقبل ذلك، عملت كمراسلة صحافية عند اثنتين من أكبر الصحف اليومية في كندا.

عقيدة الصدمة
في عام 2007، تلاحَقَ صعودها بصدور كتابها «عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث». في البدء، كان المفترض أن يكون كتاباً عن الحادي عشر من سبتمبر والإرهاب والحرب. لكن خلال سير البحث، حصل تغيّر في الاتجاه. كانت كلاين قد سافرت إلى العراق كمراسلة صحافية للغزو الأميركي هناك. وفي 2004، حصل التسونامي في جنوب شرق آسيا، وبعده بركان كاترينا. شاهدت كلاين كيف كانت القوى النيوليبرالية تستغل ـــ عمداً ـــ حالات الصدمة التي خلقتها تلك الكوارث. وصفت في الكتاب كيف أسهمت الولايات المتحدة، أثناء احتلالها العراق، في فرض قوانين لخصخصة بعيدة المدى لاقتصاد ذلك البلد.

القبول بالوضع الراهن لم يعد خياراً... لنسعَ لمجتمع أكثر مساواةً واستدامةً

خصخصات يمكن للمرء أن يلاحظ أنها مصاغة خصيصاً كي تلبّي مصلحة الأميركان. كما أنّها تصف كيف أنّ إعادة إعمار مدينة نيو أورليانز قد أتيحت لشركات المقاولات، ما أنتج أرباحاً هائلة للشركات الكبيرة في الوقت الذي تم فيه إغلاق مدارس ومستشفيات القطاع العام. وإلى حد كبير، كان هذا الكتاب وراء ازدحام وقت الكاتبة خلال الأيام الأخيرة بالمقابلات عبر الإنترنت، فالجميع يريد أن يعرف ما إذا كانت ترى «عقيدة الصدمة» كامنة تحت عباءة فيروس كورونا. وهي تجيب قائلة: «بلى، إني أراها فاعلة على قدم وساق. المجر هي على الأرجح أوضح مثال على ذلك. بذريعة فيروس كورونا، حصّل رئيس الحكومة هناك، فكتور أوربان، لنفسه سلطة لحكم البلاد لوقت غير محدّد بدون تدخل البرلمان. إنه هجوم جذري على الديمقراطية». أما كيف تبدو «عقيدة الصدمة» اليوم في الولايات المتحدة؟ تجيب كلاين: «إنها ليست بالدرجة نفسها من التطرف. لطالما دأبت الشركات الكبيرة، ولا سيما في مجال صناعة النفط والغاز، على الضغط من أجل تخفيف القيود على التلوث والانبعاثات الغازية. الآن جرى التخلي عن هذه القيود. وفي الأسبوع الماضي، قررت السلطة الاتحادية لحماية البيئة أنها لن تطبق قوانين البيئة أثناء الوباء. لكن هذا حدث بصمت بحيث أن معظم الناس مرّوا به مرور الكرام. كما أنّنا نرى أن الحكومة تدعم قطاع الأعمال بأموال هائلة، وخوفي هو أن هذا سوف يزيد الأغنياء غنى، فيما يُضرَب القطاع العام على المدى البعيد، كقطاع الصحة مثلاً الذي ـــ في حالة كونه متطوراً ـــ يُفترض أن ينقذنا الآن».

برنامج بيرني ساندرز
تعتقد نعومي كلاين بأنه بات جلياً في الآونة الأخيرة عدم وجود شحّ في الأموال: في أواخر آذار (مارس)، قدم كبير المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض لاري كودلو أكبر حزمة دعم في التاريخ الأميركي: حوالى ألفي مليار دولار، خُصص منها ما يقارب ثلاثة عشر مليار دولار لقطاع الصحة. انتقد الديمقراطيون الحزمة لكون المساعدات ستعطى للشركات من دون أن تصحبها شروط حول كيفية استخدام هذه المبالغ أو ـــ على الأقل ـــ بوجوب أن تقدم الشركات بياناتها عن أعمالها. وتتفق كلاين مع هذا الانتقاد. ترى أنه بدلاً من إعطاء المال للشركات، هناك كثير من الطرق الأكثر بساطة وأماناً لإيصال النقود إلى الناس: يمكن للدولة أن تدفع مبالغ إيجار المساكن، وأن تشطب أو توقف ديون الدراسة والرعاية الطبية، وأن تتحمل مسؤولية توفير دخل أساسي للفرد. كثير من هذه الاقتراحات كانت جزءاً من الحملة الانتخابية لبيرني ساندر، وهو المرشح الرئاسي الوحيد الذي تؤيده كلاين علانيةً، وشاركت في حملته الانتخابية التمهيدية، ومثلته في اجتماعات عدة، وتحدثت إلى أنصاره حول التهديد المناخي والسياسة المناخية. تقول إنها لم تعمل في حياتها أبداً بهذه الشدة كما فعلت في تلك الحملة، مؤكدةً: «لو كان هذا الوباء قد أصاب الولايات المتحدة قبل ثلاثة أسابيع فقط وكشف بذلك عن الوحشية في قطاع الصحة المُساق بالأرباح، لكان بيرني ساندرز قد فاز. أنا مقتنعة بهذا بكل صدق». وهنا تتساءل الصحافية حول سر عدم ميل الأميركيين إلى الحلول الجماعية كالرعاية الصحية العامة مثلاً، فتقرّ نعومي بأنها هي نفسها تجهد في محاولة فهم الأصل في عدم الميل هذا، خصوصاً الآن. وتضيف: «غالبية استطلاعات الرأي تظهر أن الديمقراطيين يريدون أن يكون للجميع الحق في نوع ما من الرعاية الصحية، لكن ثقافة كراهية اليسار في هذه البلاد عميقة بشكل لا يصدق. كثير من الناس أيدوا سياسة بيرني ساندرز ولكنهم لم يصوتوا له. كانوا يخشون أن ترامب سيذبحه لأنه دعا نفسه اشتراكياً ديمقراطياً. الخوف من كلمة الاشتراكية شديد جداً. أعرف كل شيء عن هذا، أسرتي هاجرت من الولايات المتحدة بسبب ذلك».

يسارية بالوراثة
كان والدا نعومي قد قدما إلى كندا قبل ثلاثة أعوام من مولدها في مونتريال 1970. والدتها بوني شير كلاين مساواتية صانعة أفلام وثائقية، ووالدها مايكل كلاين سيصبح طبيباً، وكلاهما كان معارضاً لحرب فيتنام. كانت قد تبقت لوالدها مايكل سنة واحدة في دراسة الطب عندما استُدعي لحرب فيتنام، فحاول التملّص، وسجل نفسه رافضاً لحمل السلاح وعرض خدمة غير مسلحة. لكن لم تتم الموافقة على ذلك، وصار لزاماً عليه الاختيار بين عقوبة السجن أو السوق للجيش، وعندها قرر والداه أن يهاجرا من الولايات المتحدة. لكن الميول اليسارية للأسرة تعود إلى زمن أبعد من ذلك. فجدّ نعومي لأبيها كان يعمل في صناعة الرسوم المتحركة في شركة «والت ديزني»، وكان ناشطاً نقابياً أيضاً. وبعد إضراب 1941 في شركة «ديزني»، فُصل من عمله ووُضع اسمه في القائمة السوداء في مجال عمله، فاضطر للعمل في مصنع لبناء السفن.
ثقافة كراهية اليسار في الولايات المتحدة عميقة بشكل لا يصدق (ن. ك)

تقول نعومي: «إني أتوجع عندما أرى موارد العالم تنكمش، وأتوجع على أن ابني الذي يحب الطبيعة سيكبر في وقت يتّسم بانقراض الأنواع المدهشة. وأعرف أن أيّاً من هذه الأشياء لن يتغير بمجرد أنني أكتب الكتب، فما يمنع حدوث هذه الأشياء هو حركات شعبية قوية وواعية بأهدافها. إذا كان لي أن أسهم بشيء من أجل حركة كهذه، فسأكون راضية، بل أكثر من راضية: سأكون سعيدة!». وتشير إلى توسع المساحة الجماهيرية لليسار في أميركا قائلة: «بعد سنة من صدور «عقيدة الصدمة»، حدثت الأزمة المالية، وعندها صار لزاماً لفت الاهتمام إلى جشع المصارف ووجوب أن تحمّلها الدول المسؤولية عن الأزمة. في تلك اللحظة، كان اليسار عبارة عن قول لا! كان ثمة افتقاد إلى بديل جريء، عادل ومستدام، للنيوليبرالية. والآن لدينا هذا البديل».

الصفقة الخضراء الجديدة
تصف نعومي كلاين الصفقة الخضراء الجديدة Green new deal (حزمة إصلاحات لسياسة المناخ، نشرتها عضو الكونغرس الديمقراطية ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز ونائب الرئيس سابقاً، والناشط المناخي، آل غور) بأن فكرتها الأساسية هي استغلال الناس وقمعهم، والاستغلال الجائر لموارد الأرض المحدودة، وجهان لعملة واحدة. بمعنى أن غاية الصفقة الخضراء هي أن تتخلى الولايات المتحدة تدريجاً عن الوقود الأحفوري، وفي الوقت نفسه يتم تقليل التفاوت الاقتصادي؛ إذ يتم ترحيل الأموال وقوة العمل من قطاع الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة، التي ستشكل قطاعاً خالقاً لأعمال أكثر بكثير مما توفره صناعة الغاز. لكن هذا، كما توضح نعومي، يتعلق أيضاً بتقليل الاستهلاك بشكل عام، وهو أمر يصعب التوفيق بينه وبين النظرة الشائعة إلى العالم التي تعدّ النمو هو مقياس النجاح. وتضيف موضحة:
«سنحتاج إلى معايير جديدة للنجاح الاقتصادي. ينبغي أن يُقاس النجاح بناءً على ما إذا كان يحمي ويحافظ على الدورات المتجدّدة والتي تمنح الحياة. سيكون هناك نمو ولكنه ليس نمواً عشوائياً. على سبيل المثال، يُظهر هذا الوباء كم هي مهمة مهن الصحة والرعاية، إنها «أعمال خضراء» وهي بذلك قطاع يمكن أن يُسمح له بالنمو بدون أن نخرّب الكوكب. أما الاسم نفسه Green new deal فيرجع إلى الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية New deal التي أدخلها فرانكلين روزفلت كردّ على الكساد الكبير الذي أعقب انهيار سوق الأوراق المالية سنة 1929».
في أحدث كتبها «في اللهب. خطاب ناري إلى العالم من أجل صفقة خضراء جديدة»، تصف كلاين انتقالها من مقاربة العالم وكوارثه من خلال منظور اقتصادي إلى نظرة أكثر شمولية. جاءت تلك اللحظة عندما كانت، قبل خمسة عشر عاماً، ترسل تقريرها الصحافي، مغمورة بالماء إلى وسطها، من مدينة نيو أورليانز المضروبة بالإعصار. تقول: «كان إعصار كاترينا كارثة طبيعية ولكن السبب في أنه كان مدمراً إلى تلك الدرجة في نيو أورليانز هو أن المدينة كانت مهملة لأن سكانها كانوا في معظمهم فقراء وأفرو أميركيين. وقتها أدركت أنه من غير الممكن فصل أزمة المناخ عن المشاكل الأخرى كالمساواة والتمييز العرقي».

لا يمكن فصل أزمة المناخ عن المشاكل الأخرى كالمساواة والتمييز العرقي (ن .ك)


تعرضت حزمة الإصلاح للنقد من جهات عدة. العديد من الجمهوريين قالوا بأن الصفقة الخضراء الجديدة نوع من الاشتراكية المتنكرة. ومن جهة الديمقراطيين، كان النقد يتعلق بأن الإصلاح المقترح في الصفقة هو من الشمولية بحيث لا يمكن تطبيقه على الإطلاق. جوي بايدن، الذي صار الآن مرشح الديمقراطيين للرئاسة، وصف الإصلاح بأنه «إطار مهم» ولكنه لا يدعمه ككل. تعلق نعومي بالقول: «الصحيح هو أن الصفقة الخضراء الجديدة ليست بروتوكولاً مناخياً ضيقاً. إنها نموذج فكري جديد كلياً، إنها خطة لاقتصاد ما بعد الوقود الأحفوري. لكن التغيير الجذري ضروري ضرورة مطلقة، فلم يعد لدينا وقت لتغيير تدريجي. وفقاً للجنة الأمم المتحدة للتغيرات المناخية (IPCC)، سوف ترتفع درجات الحرارة مع استمرار المعدل الحالي للانبعاثات الغازية بحوالى ثلاث درجات حتى نهاية القرن. وحدوث احترار قوي كهذا هو تهديد لنسبة كبيرة من النظم الحيوية للأرض، ويمكن أن يتسبب في إطلاق احتباس حراري خارج التحكم البشري. وللحد من الاحترار إلى درجة ونصف الدرجة، يجب خفض مستوى الانبعاثات الغازية إلى النصف حتى عام 2030. هذه الأرقام موجودة أساساً في اتفاقية باريس للمناخ التي خرج ترامب منها».
مع ذلك، فإن نعومي كلاين حذرة في تفاؤلها: «لقد جرى تنفيذ الصفقة الجديدة الأصلية New deal عندما كانت الولايات المتحدة في حالة كساد. ففي وقت الأزمات يكون الناس على استعداد لإجراء تغييرات كبيرة. إنه أمر منطقي، فلماذا سيرغب الناس في تغيير المجتمع دراماتيكياً حين تكون البطالة منخفضة والاقتصاد مزدهراً؟ إنه ليس أمراً سهلاً، ولكني أظن أن حظوظنا في الحصول على شيء تقدمي كالصفقة الخضراء الجديدة هي اليوم أكبر مما كانت قبل الوباء».
تدعو كلاين هذا بالقفزة التطورية، فلا حاجة لأن تتبع الأزمة أو الكارثة عقائد صدمة، إذ يمكن لهما أن يصبحا أساساً للتوق إلى شيء آخر. وبهذه الطريقة يصيران بداية لمجتمع أكثر مساواةً واستدامةً. القبول بالوضع الراهن لم يعد خياراً. أنا مقتنعة بأننا سنشهد بعد الوباء تغييرات مجتمعية هائلة، تقول نعومي بثقة.