أمس، أعلنت لجنة تحكيم «الجائزة العالمية للرواية العربية 2020» (تبلغ الجائزة الكبرى 50 ألف دولار أميركي، فيما يحصل كلّ كاتب وصل إلى القائمة القصيرة على 10 آلاف دولار أميركي مع ترجمة الأعمال في القائمة إلى لغات عدة) عن اسم المتوّج بالجائزة بدورتها الـ 13: هكذا، فاز عبد الوهاب عيساوي عن روايته «الديوان الإسبرطي» (دار ميم للنشر ـ الجزائر) وسط قائمة ضمّت العراقية عالية ممدوح عن روايتها «التانكي» (منشورات المتوسط)، والمصري يوسف زيدان (فردقان ـ دار الشروق)، واللبناني جبور الدويهي (ملك الهند ـ الساقي)، والسوري خليل الرز (الحي الروسي ـ منشورات ضفاف)، والجزائري سعيد خطيبي (حطب سراييفو ـ منشورات الاختلاف). الناقد والكاتب العراقي محسن جاسم الموسوي الذي يترأس لجنة التحكيم، بعضوية كلّ من فيكتوريا زاريتوفسكاي، وأمين الزاوي، وريم ماجد، والزميل بيار أبي صعب، رأى أنّ رواية عيساوي «تتميز بجودة أسلوبية عالية وتعدّدية صوتية تتيح للقارئ أن يتمعّن في تاريخ احتلال الجزائر روائياً ومن خلاله تاريخ صراعات منطقة المتوسط كاملة... كلّ ذلك برؤى متقاطعة ومصالح متباينة تجسّدها الشخصيات الروائية، إن الرواية دعوة القارئ إلى فهم ملابسات الاحتلال وكيف تتشكل المقاومة بأشكال مختلفة ومتنامية لمواجهته. هذه الرواية بنظامها السردي التاريخي العميق لا تسكن الماضي بل تجعل القارئ يطلّ على الراهن القائم ويسائله».
من هو عبد الوهاب عيساوي؟
- لعلّ أكثر شيء يستعصي على الإنسان أن يعرّف نفسه، وهو لا يستوعب شيئاً غير كونه إنساناً ثم كاتباً، ولكنّي سأحاول. عمري خمس وثلاثون سنة، خريج جامعة جزائرية مهندس وماستر في الألكتروميكانيكا، اختصاصٌ يحتاج فيه الطالب إلى جهد كبير في الرياضيات والفيزياء، مثلما تتطلّبُ الرواية أيضاً قدراً لا بأس به من المنطق والهندسة، على الأقل إذا ما وافقنا جيل دولوز في رؤيته للشخصية الروائية المفهومية. اشتغلتُ سنوات في شركة للأشغال الفنية، وتفرغتُ في السنة الأخيرة للبحث والتوثيق في نصّ جديد.

تُعيدني كل رواية إلى النص الأول الذي كتبته، متسائلاً كيف كُتب؟
- بدأ من نوستالجيا أبوية، عن مدينة كولونيالية صغيرة، يُحيط بها سور، على طرفي أهم شوارعها كنيسة وبيْعة، تتوسّط الشارع سينما يُقابلها مسجد. كان أوّل سؤال طرحته يوم سمعت الحكاية، كيف يمكن أن تجتمع هذه الديانات كلها في شارع واحد؟ ثم قرّرتُ أن أكتب التاريخ الاجتماعي للمكان على رأي جورج لوكاتش، فاخترتُ السينما التي أرّخت لثلاثة أجيال، الكولونيالي، وجيل السبعينات والثمانينات الذي شهد هدم السينما. وهكذا كُتبت رواية «سينما جاكوب» (2013). ثم تلتها روايات أُخرى، كل رواية تُعيد التأسيس لسؤال المكان الحقيقي والمتخيّل. «سييرا دي مويرتي» (2015)، أو جبل الموت. كانت أول رواية توثيقية بالمعنى الدقيق، إذ بُنيت على شهادات الجمهوريين الإسبان المنفيين من حكومة فيشي في المدينة التي أقطنها «الجلفة» جنوب الجزائر. ماذا سيقول الإسباني (الغربي المهزوم من بني جلدته) عن الشرق الحضاري؟ هل ستكون رؤيته نفسها الرؤية الكولونيالية المتعالية أم أنّ لديه تعاطفاً؟ تتفاوتُ الشهادات حول هذه الرؤية.


أعادت الرواية بناء المعتقل، وحملت كل شخصية خطاباً موازياً لرؤيتها. صاحبت الراوية كائنات أندري مالرو في «الأمل»، وجورج أورويل في «الحنين إلى كاتالونيا»، وهمنغواي في «لمن تقرع الأجراس» لكن بعد نهاية الحرب الأهلية الإسبانية في معتقل في الجزائر. يختلف الأمر مع رواية «الدوائر والأبواب» (2017)، فهي رواية للموروث الشعبي، وما حفلَ به من غرائبية، واستعادة لأجواء الصحراء، والحبّ في صورته الأولى، والرؤية الدينية المنغلقة التي صارت عائقاً في وجه الحياة الإنسانية. بينما في رواية «سفر أعمال المنسيين» (2017)، كنتُ أقرب إلى نجيب محفوظ، متأثّراً أكثر بأسلوبه. وهكذا انزاحت الرواية إلى كونها ملحمة تتضاءل فيها الروائية بالمفهوم الحديث. «مجاز السرو» (2012)، وهي مجموعة قصصية، يُمكن أن أعتبرها مُحاورة لنصوص عالمية، تَحفلُ بالروح الغربية، مُحاكية أساليب توماس مان وهيرمان هيسه وكافكا وهينرش بول، وغيرهم.

كيف يكتب عبد الوهاب؟
- أميل إلى طرح دولوز، في كون الكتابة عملاً أُحادياً. الكتابة رحلة للبحث عن تجانس داخل هذا الفضاء المشترك، ولا يشتمل الأمر على الموضوعات التي يكتب عنها، بل إنه يمتدّ كذلك حتى إلى بنية الروايات، وانسجامها مع مواضيعها، وحتى مع الفضاء المكتوب عنه. في «خريف البطريرك»، اجتهد ماركيز في كتابة هذه الرواية، مزقها مرتين أو أكثر حين لم يعثر على التجانس الذي يبحث عنه؛ رائحة الكاريبي، والموسيقى اللاتينية، والروح العامة يجب أن تتمثلها بنية الرواية (الراوي، الشخصية، الزمن...) قبل أن يتمثلها موضوع أو سؤال الرواية. ربما على هذه النحو أرى الرواية الآن، وإن لم تكن رواياتي السابقة قد حقّقت هذه الرؤية، كان السؤال يحضر بعد تأمل في الواقع، أو في كتاب ما، أو تاريخ مدينة، أو حتى في سلوك إنساني، ثم تبني الحكاية نفسها بنفسها حاملة الخطابات في بعض الروايات، وأخرى تضطرني إلى البحث أسابيع وأشهراً. في العادة لا أكتب طوال العام، أخصص شهرين أو ثلاثة فقط للتحرير، وبقية السنة للمراجعة.

ماذا عن اليوميات والعزلة؟
- أصرفُ أغلب الوقت إما في القراءة، أو في مشاهدة الأفلام، تستهويني السينما الإيطالية، أجدها أكثر قدرة وتعبيراً عن الحياة. أما في الرواية، فأجدني أكثر ميلاً إلى الرواية الألمانية. هناك روح سردية وفلسفية عالية، لا أجد نصّاً عربياً مثل «لعبة الكريات الزجاجية» لهيرمن هيسه، أو «الجبل السحري» لتوماس مان، والتحليلات المعرفية في «الدكتور فاوست»، أو عجائبية «طبل الصفيح». أما في ما يخص الرواية اللاتينية، فأميل إلى ساراماغو. أراه أقدر الكتّاب على إثارة أسئلة الكتابة في رواياته؛ ماذا إن كان الناس كلهم عمياناً وكنت الوحيد المبصر بينهم في رواية «العمى»، أو ماذا لو توقف الموت عن أخذ أرواح الناس في «انقطاعات الموت»؟ وحتى في بقية رواياته مثل «الآخر مثلي»، أو «حصار لشبونه».
روح سردية وفلسفية عالية في الرواية الألمانية لا أجدها في أي نصّ عربي

أما الروائي اللاتيني الأكثر قدرة على تقنيات الرواية، فأرى أنه فارغاس يوسا الذي يتجاوزهم كلهم. تكفي قراءة «المحاروة في الكاتدرائية» أو «المدينة والكلاب» وسيُدرك القارئ المحترف أن هذا الروائي منذ السبعينات كان متجاوزاً لزمنه. مع أني لا أعيش عزلة بالمعنى الحرفي، ولكنّ طبيعة المكان الذي أعيش فيه تفرضها، إذ لا تتاح الكثير من وسائل الترفيه، وهذا يجعل أمر القراءة والكتابة يسيراً. مع أن مفهوم العزلة الحقيقي روحي وليس مكانياً، أو ربما للكُتّاب وجهة نظر مختلفة، فربما لم تكن «ماكوندو» معزولة بالطريقة نفسها التي صوّرها ماركيز في «مئة عام من العزلة».

كيف ترى قارئ رواياتك؟
أفضل قارئاً لا يعرفني شخصياً، بل يعرف ما أكتب، لأنني عرفتُ الكتّاب بهذه الطريقة، وتفاعلت مع نصوصهم، وعشتُ مع أبطالها في حركاتهم وسكناتهم لحظة بلحظة، يكفي أن نذكر راسكولنيكوف لنستعيد «الجريمة والعقاب»، ونزيد إجلالاً للعظيم دوستويفسكي، أو هانز كاستروب في «الجبل السحري»، أو الماجستر لودي يوزف كنشت في «لعبة الكريات الزجاجية»، أو مصطفى سعيد في «موسم الهجرة إلى الشمال» للراحل الطيب صالح، ومتعب الهذال في «مدن الملح» للكبير عبد الرحمن منيف، السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية المُعلِّم الأول نجيب محفوظ... الأمر أراه هكذا، العلاقة الحقيقية بين الكاتب والقارئ يصنعها أبطال الروايات. في الأخير، يبحث القارئ عن حياته متمثلة في شخصية روائية، تشاركه الهموم أو طريقة التفكير، تتعاطف معه، وليست دائماً شخصية الرواية تشبه كاتبها، وربما هذا ما يجعل القارئ يهتم بلقاء الروائي، والكثير سيصدم حين يقترب أكثر ويعرف الشخصيات الحقيقية للكتّاب عن كثب.



رواية التاريخ... الجزائري

عبد الوهاب عيساوي
القول إن «الديوان الإسبرطي» (دار ميم للنشر ـ الجزائر ـ 2018) التي أهّلت عبد الوهاب عيساوي لجائزة «بوكر» العربية هذا العام، تتناول فظاعات الفرنسيين في الجزائر، وقبلها الاحتلال العثماني هناك، سيكون مجرّد اختصار للرواية. ذلك أن الروائي الجزائري الشاب يفسح المجال كلّه للاشتغال السردي لتفكيك تلك الأحداث التاريخية وإعادة كتابتها ضمن مقاربة أسلوبيّة تتجاوز حَرفيّة الأحداث الماضية. هذا تحدّ بالنسبة إلى أي رواية تاريخيّة، وإلى قدرتها على تكييف السرد مع تلك الأحداث من دون أن تظلّ أسيرة لها أو أن تقع في فخّ التقرير. يسير البناء السردي للرواية من خلال خمس شخصيات، وفي سياق زمني يمتدّ بين 1815 و1833 في مدينة المحروسة في الجزائر. يتيح الكاتب لكلّ منها الحديث بلسانها في كلّ فصل من الفصول الخمسة: الصحافي الفرنسي ديبون، والجندي السابق في جيش نابليون كافيار، بالإضافة إلى ثلاث شخصيات جزائرية ابن ميار، ولحمة السلاوي، ودوجة. تسير الأحداث على مرأى من هذه الحيوات الفرديّة، التي تتفاوت آراؤها ونظرتها وقراءتها لكلّ ما يجري. بين خيار الثورة، وتبديل الموقف إلى تعاطف مع الجزائريين، وخيار المهادنة مع الاحتلال... كلّ هذه التفاعلات تشكّل قراءة أخرى للأحداث السابقة، وتمنحها راهنية تصلح لقراءة التحوّلات السياسية المعاصرة، من دون أن تغيب عنها الجوانب الإنسانية والنفسية خصوصاً لناحية التطوّر الداخلي للشخوص طوال الرواية.