يشتمل كتاب «في مهب العراق» (دار الرافدين للنشر والطباعة ـ بيروت) للكاتب والشاعر علي عبد الأمير عجام، على خلاصة فريدة ظلّت المدونة العراقيّة في تقصير واضح نحوها، وهي توثيق الأحداث التاريخية الكبيرة والمصيريّة من وجهة نظر شخصيّة محض، بعيدة عن التوجهات والاستقطابات، قريبة قدر الإمكان من الحقيقة بوصفها توصيفاً للأحداث ورصداً للمعلومة وتحرياً لمآلات الوقائع.يتابع المؤلف التحوّل السياسي في بلاد الرافدين منذ عام 1991 لغاية سقوط نظام البعث في عام 2003، متّخذاً من التقارير والأخبار الصحافيّة التي كان يحررها لصالح عدد من الصحف التي عمل فيها مراسلاً أو محرراً للشأن الثقافي والسياسي في العراق، مادةً أساسيّة للكتاب، ما أتاح له أرشيفاً هائلاً من المعلومات والإحصائيات والتحليلات التي تبتعد بطبيعة الحال عن «الغلواء العقائدية ممثلة بأجهزة نظام صدّام حسين من جهة، والقوى المعارضة له من جهةٍ أخرى». أمر يسبّب ببساطة غياب الحقائق وسيادة الانتقائية في عرض التحولات والأحداث الفارقة في نحو أربعة عقود من تاريخ بلاد ما بين النهرين.


يعتمد الكتاب أنواعاً متباينة من الكتابة، توزّعت بين اليوميات والمشاهدات الحقيقية الشخصية التي كان الكاتب شاهد عيان عليها، خاصة عن حربي 1980 و1991، وصولاً إلى مرحلة التوثيق الصحافي والخبري لوقائع الحصار 1991- 2003، أثناء عمله مراسلاً ومحرراً سياسياً وثقافياً في صحف ومجلات عربية عدة. ويسمح الكتاب للقارئ في الحصول على صورة بانورامية غاية في الأهمية للتحولات العميقة التي مضى بها المجتمع العراقي والأبعاد السياسية والاجتماعية والفكرية التي أسهمت فيها.
ويستمر الكتاب بتدوين وقائع البلاد ما بعد تغيير نيسان 2003 واحتلال العراق، كاشفاً التغيرات المتسارعة والمركزية التي حصلت في سنة الاحتلال الأولى وما تركته من تبعات ظلت البلاد تحت تركتها الثقيلة إلى اليوم، ما يضعك في قلب تلك الأيّام وتحولاتها الدقيقة والعاصفة.
ويؤكد المؤلف في مقدّمته أن «الكتاب لا يدّعي احتكار الحقيقة، ولا يقدّم صورة محكومة بأيّ خلفية سياسية، بل هو يسعى في مضمونه إلى أن يكون أقرب إلى الحقيقة» من خلال كتابة غير محكومة بأيديولوجيا سياسية، فضلاً عما قد توفره معايشة الأحداث والمشاركة فيها من صدقية وواقعية.
يفتح الكتاب سؤالاً بارزاً عن مدى ندرة الكتب التي تتناول الأحداث الكبيرة الواقعة في العراق والتي تعتمد على سرد شخوص خارج أطراف الصراع الرسمي. فقد تعودنا على قراءة تاريخ الحوادث المفصلية برواية الزعماء أو القادة العسكريين أو المؤسسة الإعلاميّة الرسمية، ولم نطّلع على شهادات كتبها جنود عاديون أو أشخاص وقعوا تحت نيران الحدث وعايشوه على الأرض، على الرغم من جسامة الوقائع العراقيّة امتداداً من حرب الخليج الأولى والثانية وانتهاء بالحرب على داعش، وما رافقها من أحداث فادحة كان يمكن لتوثيقها أن يتيح فرصة استثنائية لقراءة المشكلة سوسيولوجياً وتشخيص أسبابها وتحديد نتائجها، بالإضافة إلى القيمة التوثيقية العالية التي يمكن تحصيلها من شهادات إنسانيّة متجردة من الميول الفكريّة.

العلاج بالموسيقى
ملمح مهم من ملامح الكتاب هو علاقة مؤلفه مع الموسيقى استماعاً وكتابة نقديّة، وهي الطريقة التي اتّخذها في مواجهة مصير أسود ظلّ يتهدده. والكاتب معروف بمقالاته النقدية التي ظل يتابع فيها الموسيقى العربية والغربية بكتابات حصيفة على امتداد ثلاثة عقود تكشف عن ثقافة موسيقية لافتة تستحق الإعجاب. الموسيقى هنا ملاذ ومنجاة من رهبة انتظار موت مجاني ينتظرك في كل لحظة قادمة. يقول تعليقاً على أغنية الأميركي بروس هورنسبي The Way It is: «كنت أوشك على الهروب بعد نحو عام من سماعي الأغنية- السؤال، وتحديداً حين ترجلت من السيارة التي كانت تقلّني إلى جبهة «نهر جاسم» في البصرة، حيث المعارك التي ستكون لاحقاً الأكثر وحشيةً وهولاً في تاريخ الحرب العراقية- الإيرانية. ووقفت أمام الطريق الذي يأخذ الجموع إلى حتفها، وعدت متأسياً لأقول كما كلمات الأغنية The Way It Is، ثم لماذا أهرب، وإلى أين؟ فالأشياء لن تتغير Some things will never change».
وفي التماعة أخرى، يكتب عن أسطوانة The Final Cut لفرقة «بينك فلويد» مقطعاً مؤثراً: «في كتابتي عن تلك الأسطوانة، وجدتني أكتب عن نفسي وعن حربي الشخصية. كتبت عما يتطامن في روحي أو يتبدد، روحي المختبئة في جسد حي مدفون في ملجأ تحت الأرض، ومن تعثر لغتي في الوصف والمراجعة والتحليل الموسيقي، وجدت الشعر ثانية ولكن في بحث آخر غير الذي اعتدته. وجدته في لغة أنفاسها متقطعة كما أشكال الجروح المتناثرة على امتداد الحدو».
توصيف شامل لأوضاع الآثار والأضرار التي لحقت بالبشر والحجر


فضلاً عن حصيلته الهائلة من المعلومات والإحصائيات والأحداث التي ربما سقطت من ذاكرة كثيرين ممن عايشوا تلك المرحلة، والقيمة العالية للتوثيق ودوره في تحليل الظواهر الاجتماعيّة والسياسيّة، اللافت في الكتاب هو الأسلوب الأدبي الذي غلّف عدداً كبيراً من التقارير الصحافية والالتماعات الشعريّة والسرديّة التي طغت على اليوميات التي كتبها عجام، والتي تذكر بنمط من الكتابة الصحافيّة التي مارسها عدد من الأدباء في العالم أثناء عملهم كمراسلين حربيين أو تطوعهم في الأحداث العالمية الكبرى. ونذكر هنا كتابات الصحافية والكاتبة البيلاروسية سفيتلانا اليكسييفيتش الحائزة «نوبل للآداب» عام 2015. نقرأ مثلاً في فصل «بحثاً عن قلب رحيم في الحرب!»: «إنها بيئةٌ خصبة ومحمومة أيضاً بالأسرار، كنت أسجّل مشاهدها في ذاكرتي، وأجد في مراقبتها نوعاً من السلوى وقتلاً للوقت الطويل. عبرت قناطرَ خشبية صغيرة وأخرى حديدية كبيرة، صعدت إلى ينابيع مياه وأمضيت أوقاتاً عند جداول، تطلعت في سماوات تضيق بسبب القمم العالية المتراصة، ووجدت في غرائبية المكان ووحشته الضارية تناغماً مع روحي المفزوعة. أنا القادم إلى هذه المضائق الجبلية من آفاق تجربة تكسرت فصولها كما تتكسر هنا مديات الرؤية. أنا القادم من حربي الشخصية على الخذلان وانكسار الأمل إلى حرب كانت بزتي العسكرية تمثلها».

المأساة مستعادة من جديد
يفتح الكتاب جرح الذاكرة العراقية في تسعينيات القرن الماضي، وما كابده الشعب من مرارات مفجعة أيام الحصار الاقتصادي. تستيقظ المأساة وتستعاد من جديد ونحن نقرأ عن مواطنين يبيعون دماءهم إلى المراكز الطبية لقاء بعض المال، أو موت آلاف الأطفال بلا علاجات تحت أقدام الأمراض الفتاكة، وقناني الغاز التي وصل سعرها إلى مئة ألف دينار، وعن العراقيين الذين باعوا أغراضهم الشخصية ليشتروا بأثمانها خبزاً أو علبة دواء. تمر التقارير على الخراب الفادح الذي لحق بالبيئة العراقية ورصد الأضرار التي سببتها الحروب على أرض البلاد ومائها، حتى صارت من أشد بقع العالم تلوثاً جراء الحروب المتلاحقة، مع توصيف شامل لأوضاع الآثار العراقية ومنظومة التعليم والزراعة والتدهور الذي طال مفاصل الحياة العامّة، ما يجعلك تسأل عن نهاية ماراثون الكتاب المأساوي: كيف استطاع أبناء هذه البلاد عبور تلك الأيام السود؟ وأي تغيرات نفسية تركتها تلك الأحداث المرة في نفوسهم؟