كيف يمكن باحثاً وعالماً جدياً يعتمد الحذر في اللجوء إلى معايير علم الاجتماع، كما يذكرنا اقتباسٌ عن ليو شتراوس في المقدمة «لا ربيع لسوريا» («دار لا ديكوفيرت» ـ باريس)، أن يتناول الاضطراب الحالي في سوريا حيث آلاف القتلى وملايين المهجّرين سيدخلون في سجلات التاريخ؟ هذا هو التحدي الذي واجهه 28 اختصاصياً، وأعضاء في «المعهد الفرنسي للشرق الأدنى» أو مقرّبون منه. أسهم هؤلاء في إنتاج الكتاب الفرنسي بعنوان «لا ربيع لسوريا» بفضل معرفتهم الواسعة والسنوات التي أمضوها على الأرض في سوريا.


يضمّ هذا المجهود الجماعي وجهات نظر مختلفة ومتباينة أحياناً، ما يجعلها «تتعايش» في لحظةٍ تتوسّع فيها الفجوة بين فريقَي «المتفائلين» و«المتشائمين» إزاء ما يحدث في سوريا. هذا العامل يضيف قيمةً إلى هذا المؤلف الذي أشرف عليه الباحثان فرنسوا بورغا وبرونو باولي. في الكتاب، يرى الباحثون المتفائلون أنّ «تجاوز الحقبة الاستبدادية الطويلة التي تلت الحقبة الاستعمارية أمر لا مفرّ منه»، ويشددون على «ضرورة مشاركة الإسلاميين في هذه العملية الانتقالية في سوريا، لا بل على قدرتهم على الانضمام إليها». أمّا المتشائمون الذين حذّروا منذ البداية من أخطار الانحراف الفئوي، وقد بيّن الوضع الحالي أنّه صحّت توقعاتهم جزئياً، فيتنبأون بـ«لبننة» أو «عرقنة» أو حتى «صوملة» سوريا.
وُضعت هذه الصفحات قبل صيف عام 2013 (ثم عُدلت بنحو طفيف)، وقبل دخول «حزب الله» رسمياً إلى سوريا، وقبل استخدام السلاح الكيميائي. يعرض الكتاب أحداث سوريا بشكل عام، مشدداً على أنّ «أوّل مفاعيلها كان الانتفاضة السلمية المتأثرة بالتحركات التونسية والمصرية، على الساحة السياسية السورية الداخلية». لكنّها انتفاضة تعرّضت للقمع العنيف من النظام السوري الذي يتمتع بجسم أمني قوي، «حيث لا يمكن الاطلاع على المعلومات من دون التطرق إلى النظام القمعي» (فلاديمير غلاسمان). منذ بدء الأزمة، منع النظام الصحافة الأجنبية من دخول البلاد، أي إنّه منع الشهود، زاعماً أنّ هنالك «عدواناً خارجياً على سوريا». ومن أجل الاستمرار والبقاء، عمد إلى استغلال الانقسامات الطائفية (فرنسوا بورغا) والإفادة من الانقسامات داخل صفوف المعارضة حول الخيار الاستراتيجي لإسقاط النظام: اللجوء إلى الحرب أو لا، اللجوء إلى المفاوضات مع طرفٍ من النظام أو لا (نيكولا دوت - بويار).
كل ذلك أتى قبل تدخل الدول الأجنبية في الوضع السوري واستغلالها له، وقبل توافد السلاح والمحاربين الأجانب على الأرض، وقبل نمو وانتشار الفصائل الإسلامية (تطرق إليها بالتفصيل فرنسوا بورغا ورومان كايي) التي التصقت بـ«الجيش السوري الحرّ» الذي أنشأه الفارّون من الجيش النظامي، رداً على سياسة القوة العنيفة التي مارسها النظام (ماتيو ري).
يشير الكتاب إلى أنّ مساعدة الغرب للمعارضة ليست بمثالية. يذكّر بورغا وباولي في تمهيد العمل بماضي الدعم الغربي للديكتاتوريين «الذي لم يكن سياسياً فحسب، بل كان أخلاقياً أيضاً». هكذا، «حاز بن علي ومبارك وبوتفليقة جميعهم جائزة «لويز ميشال للديموقراطية وحقوق الإنسان» الفرنسية». وقد «عانى الائتلاف الوطني السوري أيضاً من غموض وتردّد السياسة الأميركية والغربية» ومن الخلافات بين الدوحة والرياض (نيكولا دوت - بويار). لم تؤد الأزمة السورية إلى انقسام المجتمع الدولي فحسب، وفق ما يشير ألان غريش، بل أيضاً «إلى انقسام اليساريين العرب على المستويين العقائدي والاستراتيجي. والخلاف الذي نشأ في جريدة «الأخبار» في آب (أغسطس) 2011 هو الدليل على أعراض الانقسامات اليسارية» (دوت - بويار).
«وبالتماشي مع «حزب الله» اللبناني وعرّابه الإيراني وشركائه في «محور الممانعة»، لعب نظام بشار الأسد بسهولة على وتر المقاومة» في مواجهة إسرائيل (بورغا) والتضامن «ضد الإمبريالية» كأن المطالبة بالديموقراطية «تتناقض مع المقاومة ضد الإمبريالية». طبعاً، يرى معسكر الممانعة أنه لا يتحرك من أجل دعم بشار الأسد، بل لمواجهة المحور الغربي - العربي الذي يدعم معارضي النظام السوري، لا بل هو صانعهم من خلال دعمٍ مالي كبير من السعودية وقطر» (بورغا). يقدّم باحثون عدة دراسات في العمل تشير إلى أنّ الانتفاضة التي استُغلت طائفياً لم يكن لها هذا الطابع عند انطلاقتها. برونو باولي المختصّ في علم العصور الوسطى، يعود إلى تاريخ الطائفة العلوية المرتبطة بشكل وثيق بأسس النظام السوري، لكنها لا تقف بأكملها إلى جانبه. وفيما يعمد ماتيو ري الذي كان موجوداً على الأرض في بداية الانتفاضة السورية، إلى تحليل المنطق الإقليمي للتحرّك، المقسّم إلى أحياء، يحلل توماس بييري الانقسامات بين النخب الدينية.
وعلى الرغم من أنّ أحداث اليوم دفعت الباحثين إلى التقليل من الدور الذي رغب كثيرون في إعطائه لجيل الفايسبوك وتويتر في التشجيع على الانتفاضة الشعبية التي سرعان ما تحوّلت إلى كابوس، إلا أنّه كان لا بدّ من التوقف عند هذا الجيل الشاب و«الخلّاق» الرافض للعنف (كارولين دوناتي) الموجود فعلاً، وتجرّأ على الحلم ورفع الشعارات (فرنسوا بورغا، وجمال شيهييد، وبرونو باولي، ومانويل سارتوري)، وترداد الأناشيد (سيمون دو بوا)، ومن بينهم «إبراهيم قاشوش الذي اشتهر للأسف بعدما ذبحه النظام، واقتلع حنجرته» بحسب الكتاب، بالإضافة إلى الصور كأدوات أخرى استخدمها الشباب في الانتفاضة وفي القتال المسلّح، واستعرضتها سيسيل بويكس.
وعلى رغم أنّ التلاعب الدولي في الأزمة السورية المتصل بمسائل ومصالح اقتصادية ونفطية، أدّى إلى شللها (سمير عيطة)، إلا أن امتدادها إلى الدول المجاورة حصل على أيدي اللاعبين السياسيين المحليين، وخصوصاً في الحالة اللبنانية. وهنا، يتناول المقال الممتاز لفانسان جيسير «الإشعاع المعقّد» التناقضات التي تولّدها الأزمة السورية في لبنان، وهو البلد الأكثر تعرّضاً «لآثار النزاع السوري المزعزعة لللاستقرار، نتيجة العلاقات العائلية والثقافية والدينية والعسكرية والسياسية والاقتصادية القديمة والعميقة بين البلدين». لقد باتت الأزمة السورية «حجةً للتعبير عن مسائل لبنانية في الدرجة الأولى»، حيث «تبنى التحالفات مع عدوّ العدوّ» وحيث يزداد استغلال الأوهام الطائفية (وهي وصفةٌ دائمة في لبنان).