معلومة مثل هذه ليست غائبة عن ذهن الرسام طبعاً، وربما يكون استئناسه بمناخاته القديمة نوعاً من خيار شخصي لا يزال يراهن فيه على تكويناته وأشكاله البشرية الغارقة في عزلتها. في المنحوتات، هناك رهانٌ على حركة الكتلة وتخديش سطوحها الخارجية. وفي اللوحات، رهانٌ على وضعيات الشخوص ومحو أجزاء من ملامحها وحضورها الجسدي. المحو يجهّل هوية الأشخاص ويجعلهم متشابهين برغم إقامتهم في لوحات مختلفة. إنهم أفراد وحيدون. الوحدة حاضرة سواء كان الشخص وحيداً في اللوحة أو محاطاً بآخرين. كأنهم متروكون لأقدارٍ غامضة ومصائر لن تتغير. التجاور بينهم لا يصنع صلة وروابط واضحة سوى التشارك في الوحشة والألم. هناك مزاج موحّد يجمعهم. إنهم أفراد في حالة جمع وعلى حدة. صامتون أو يشيحون برؤوسهم أو يعيدون أجسادهم المكدودة إلى الوراء. الغياب الجزئي والكلي للملامح يجعلهم منسحبين إلى الداخل، فنحسّ أنهم معاقبون أو مهانون. هناك دوماً هذه الانطباعات التي تتألف منها اللوحة كلها وليس مزاج أو أشكال شخوصها، حيث يشتغل دباغ على وضع كل ذلك في لحظة تعبير قصوى، حيث يجمع بين ألوان متضادة في حرارتها وبرودتها، وبين مساحات متداخلة في حياديتها وواضطرابها. في لوحات منفذة بالحبر والإكريليك على ورق تعود إلى عام 2004 نجد تأملاً أكثر في حافات الأشكال البشرية. كأننا نرى موتيفات أو دراسات سنجدها مكتملة وأكثر عنفاً في اللوحات الأحدث. في لوحة «بيروت»، نلاحظ ثرثرة بصرية وضجة لونية أكبر مقارنةً بلوحات أخرى تبث انطباعات متباطئة. في كل الأحوال، هناك رغبة ما لدى شخوص اللوحات والمنحوتات بالتحرر والخروج والطيران، لكن بعضها يسقط كما في منحوتتي Falling Woman، وبعضها الآخر ينطوي على نفسه وعلى سجنه الداخلي. نتذكر هنا منحوتته الشهيرة «الحصار» (1977) التي نحت فيها حصاناً مكبّل القوائم، ونقارنها بشخوصه المحاصرين في لوحاته الجديدة، وبالنساء المنكسرات في منحوتاته، ونكتشف أن الفنان اشتغل موضوعاً واحداً يمكن جمع عناصره التي تتكرر في أغلب أعماله. لقد رسم الإنسان السوري في تغريبة أحلامه وانكساراته. الإنسان الذي تلطخ دماؤه المشهد كله اليوم.
* «زهير دباغ 2000 – 2014»: حتى 11 آذار (مارس) ـــ غاليري «Art on56th» (الجميزة) ــ للاستعلام: 01/570331
يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza