هذه ثورة مختلفة، تفجرت في الأرياف القصية عن العاصمة وزحفت لاقتلاع النظام المتمركز في الخرطوم بكل جبروته وفساده وغرور رئيسه المخبول، وهي ثورة مختلفة لأن الجيل الذي فجرها هو ذات الجيل الذي كان يراهن على ميوعته واستكانته واستسلامه المتوهم سدنة النظام البائد ومنظروه البائسون. هم أبناء السنوات الثلاثين القاحلة، أعني من ولدوا في ظل نظام البشير ولم يعرفوا أو يعوا غيره، وهم من حاول إعلام النظام وأدواته الثقافية الزائفة غسل أدمغتهم وتدجينهم طوال هذه السنوات، بيد أن ما حققه هذا «الجيل الراكب رأس» أكد أن سيرورة الوعي السوداني الحق مستمرة، وأن «قلم الظلم مكسور» وإن طالت السنوات.نعم، انتصر الشعب، وذهب البشير بكل طغيانه وتجبّره، لكن هل اكتملت الثورة؟ هل حققت الثورة مراميها النهائية؟ الإجابة بيد الشباب الثائر الذي لا يزال معتصماً أمام القيادة العامة للجيش السوداني، متمترساً بأحقيته في تحقيق النصر كاملاً غير منقوص: كنس كل مظاهر النظام القديم، محاسبة ومحاكم الفاسدين في الأمن والحزب الحاكم البائد، نزع الحكم من العسكريين إلى الأبد وتشكيل مجلس حكم مدني يمثل كل الأطياف السودانية، وقف الحروب الدائرة في أطراف السودان ورد الحقوق لمن ظلموا في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة وأقاليم السودان الأخرى.
«العائلة» لصلاح المر (أكريليك على كانفاس ــ 134×135 سنتم ــ 2014)

الثورة في السودان لا تزال متّقدة إلى أن تتحقق جميع مطالب الثوار، من ضحوا وناضلوا لأجل بناء سودان جديد، حر وديمقراطي، يتساوى فيه الجميع، لا يخضع لمركزية عرقية أو دينية أو ثقافية.. هذا ما سيتحقق بلا شك طال زمن الاعتصام أم قصر.
على مدى أربعة أشهر متصلة ــــ كانون الأول (ديسمبر) 2018 حتى نيسان (أبريل) 2019 ــــ قدم الشعب السوداني ملحمة في البطولات والتضحيات وقودها الشباب «الجيل الراكب رأس»، الذي لم ينكسر لكافة أشكال القمع والترهيب التي مارسها النظام البائد لأجل إخماد الثورة وقتلها في مهدها. استشهد المئات من الشباب الثائرين، وأصيب وجرح وعذب الآلاف خلال هذه الأشهر الأربعة، لكن لم يكن من مجال للتراجع أو الانسكار ولا عودة للمربع الأول، بمثلما هتف الثوار مخاطبين الشهداء «يا نجيب حقهم يا نموت مثلهم». وهذا ما تحقق في النهاية، فلا رادّ لإرادة الشعوب ولن يوقفها شيء إن سعت صوب حريتها وصبت لتحقيق مصيرها.
* روائي سوداني يعيش في الخرطوم