تبدو كأنها واحدة من تلك الشخصيات الخارجة من الأساطير الإغريقة القديمة. مسار حياتها، لا بدّ من أنه قادها لأن تكون، تجسيداً لهذه التراجيديا التي امتازت بها تلك الشخصيات. تراجيديا في حدّها الأقصى، والتي لا تتوقف عن طرح العديد من الأسئلة حول الوجود والوطن وهذا الجزء الإنساني الذي يقبع في داخل كلّ واحد منّا. شخصيات الأساطير الإغريقية، وإن كانت ذات صبغة إلهية، إلا أنها أيضاً، تقع في هذه الصبغة الإنسانية، البشرية، التي لا تتوقف عن الانبجاس في لحظات كثيرة، خلال مسارنا الأرضي، وخلال صراعنا اليومي، بحثاً عن حق في وجود، لا يزال يهرب من أمامنا، ولا يتيح لنا بعد أي فرصة بالإمساك به.هكذا تبدو تجربة ريم بنّا التي غيبها الموت، صباح السبت المنصرم، لتفقد فلسطين – التي تفقد الكثير من الأشياء مؤخراً – وجهاً بارزاً من وجوه ثقافتها الجديدة، التي خطتها في السنين الماضية.
أولى هذه التراجيديات، ولادتها تحت الاحتلال، حيث يفقد المرء كل شيء: بدءاً من الأرض والوطن، وانتهاء بأقل حقوقه وواجباته الإنسانية. إلا أنها استطاعت أن تتخطى هذه العقبات، ليأتي صوتها، شبيهاً بمنشدات معابد الإغريق، اللواتي كنّ يصوبن المسار ويذكرن بما علينا القيام به كي نستمر في رحلة البحث. البحث عن خلاص من هذه القيود التي فرضتها الآلهة، والبحث عن إقامة بعدما شتتنا البحر لعقود، في سبيل العودة إلى إيثاكا.

هذا النشيد، الذي أطلقته ريم بنّا، أتى مخالفاً لما اعتدنا عليه في أناشيد الثورة الفلسطينية، التي كانت سائدة في فترة من الفترات. كان يحمل وجعاً مخالفاً، وحنيناً مختلفاً. هو حنين ينبع فعلاً من «النوستوس» الإغريقي القديم، الذي يذكر ببديهيات عدّة، لعل أبرزها، تذكيرنا ببديهية الإنسان الذي نحن عليه. فالمقاتل والثوري، هو إنسان يتوجع ويحب.. وليس فقط محارباً يريد أن يهدم الجبال. استطاعت ريم بنّا أيضاً من خلال نشيدها هذا، أن تأتي بجديد إلى الأغنية الفلسطينية وإن كانت لم تتخلّ عن شرطها التاريخي. غالبية الأدب والفن الفلسطينيين، المعاصرين، بقيا محكومين بهذا الشرط التاريخي. بالتأكيد ليس علينا التخلي عنهما، ولكن علينا أيضاً أن لا نتناسى الشرط الإنساني. أن نزاوج بينهما، عبر الشرط الفني الحقيقي. فن حقيقي قدمته ريم بنّا خلال مسيرتها التي انتهت على عجل، بسبب المرض الذي فتك بها.
هذا المرض، يُشكل تراجيديتها الثانية. ومثلما حاربت المحتل الذي استوطن بلدها، كان عليها أن تخوض نضالاً ثانياً ضد هذا «الشيء» الذي احتلّ جسدها. معركتان غير سهلتين أبداً. لا تتطلبان الصبر فقط، بل احتمالات المواجهة من جميع الجهات. حين يصيبك المرض الفتاك، لا بدّ أن تضع نصب عينيك احتمال الرحيل بالدرجة الأولى، ولكنك تضع أيضاً احتمال الأمل، مهما بدا طفيفاً. لا تستطيع أن تعارك بدون أمل ما. ولغاية لحظاتها الأخيرة – ومثلما كانت تكتب على صفحتها الزرقاء الافتراضية – بقيت ابنة هذا الأمل الذي لم يتوقف. لا معنى، ربما، لأن تكون ثورياً ومحارباً، بدون حلم الأمل الذي يقودك. إنه الدرس الأكبر الذي علمنا إياه عوليس، بعدما تاه في البحار لسنين طويلة. لم يفقد أمله بالعودة إلى بينيلوب وإلى إيثاكا.
بهذا المعنى، تقترب ريم بنّا كثيراً فيما كان يقوله محمود درويش، في الشريط السينمائي الذي أخرجه الفرنسي جان – لوك غودار. في إحدى لقطات الفيلم، يعتبر درويش أنه «آخر شاعر طروادي». والمقصود أننا لم نعرف شيئاً عن حرب طروادة، إلا عبر السيرة التي كتبها «المنتصر»، أما الضحية فلم يكن لها الحق بالتعبير عن أي شيء. لهذا أراد أن يكتب انطلاقاً من كونه الضحية، لعلّ العالم يسمع صوته.
كانت ريم بنّا تشكل «ضحيتين» في الوقت عينه: ضحية طروادية أحرقت مملكتها الجيوش الآتية من الخارج، وضحية الوحش الذي أتاها من الداخل. لكنها لم تجد بدّاً من المواجهة وإن كان ذلك عبر الكلمة واللحن والصوت. أدوات تبدو في كثير من الأحيان أنفع وأمضى من أشياء أخرى، وإن كانت لا تنفيها بالطبع.
مثلما حاربت المحتل، كان عليها أن تخوض نضالاً ثانياً ضد هذا «الشيء» الذي احتلّ جسدها


ومع هذا المسار، كان لا بدّ للشخصيات الإغريقية أن تقع أحياناً في أخطاء مميتة. وقد يكون هذا الأمر، التراجيديا الثالثة. لعل ما يشوب هذه المسيرة، خطأ ريم بنّا الذي اعتبرته «زلة ثورية» عادت واعتذرت عنها في السنوات القليلة الماضية. قيل يومها إنها صعدت على مسرح مع فنانة إسرائيلية، وقيل إنها أنشدت «للسورة» قبل أن تكتشف مسارها الحقيقي. عديدون هم الذين سقطوا في فخاخ ذلك. لم تكن الوحيدة في ذلك. وليس كلامي هنا تبريراً لهذا الخطأ، لأني لا أفهم حقاً، (ولا يمكنني أن أقبل) كيف يمكن لفلسطيني أن «يحارب» في بلد آخر، شعباً آخر، بينما عدوه على أرضه.
في حضرة الموت علينا أن نتمهل قليلاً. علينا محاكمة الشخص وهو على قيد الحياة، لا حين يرحل. على الأقل فنحن لو فعلنا، فإننا نحرمه من أبسط حقوقه: الدفاع عن نفسه. إذ لن يتمكن من ذلك بعد أن غادر.
تغادر ريم بنّا مع بداية الربيع. تغادر عشية «القيامة» عند الطوائف المسيحية. لعلّ الربيع الحقيقي يأتي من أرض فلسطين. لأنها أرض القيامة المجيدة.