لطالما رددت أن الصوت سلاحها، عثرت عليه في عام 1982 أثناء اجتياح بيروت وخروج المقاومة الفلسطينية منها. بنت الناصرة كانت وقتها في الـ 16 من عمرها، لكن القصة بدأت قبل ذلك بكثير. ولدت في 1966 عام الكذبة الكبيرة التي ادعت فيه دولة الاحتلال إعطاء الحقوق للفلسطينيين المتبقين في أراضي الـ48. فتحت الطفلة الصغيرة عينيها على النكسة والهزيمة العربية 1967. تكرج بها الأعوام الأولى في «مدينة البشارة» بعنصرية ومصادرة أملاك وقوانين احتلال صارمة لكل فلسطيني، وبوجوه ولغات كثيرة لمستوطنين يزدادون يوماً بعد يوم لالتهام كل ما يحيط بها. في منتصف الثمانينيات ومع اشتداد موجة الهجرات الصهيونية إلى الأراضي المحتلة، ستغادر مدينتها إلى موسكو لدراسة الموسيقى.ستطلق أول صوت مدوٍّ، ألبوم «جفرا» (1985) وبعدها بعام «دموعك أمي» تهديه لأمها وملهمتها الشاعرة والمناضلة زهيرة صباغ.
في 1993 واتفاقية «أوسلو» المشؤومة، وفي عز حملة غسل الأدمغة وبيع الأوهام، سيأتي ألبوم «الحلم» بوعي الفنانة المبكر، تنبه وتذكر بكلمات سميح القاسم «احكي للعالم احكي له/ عن بيت كسروا قنديله.. لماذا صارت أيدينا بحبال اللعنة مجدولة».

من موسكو ستعود إلى فلسطين عامرة بالحب والحياة. ستعيش طفولتها مجدداً، توجه صوتها وجوارحها لأطفال فلسطين بـ «قمر أبو ليلة» (1995) و«مكاغاة» (1996). ستندلع الانتفاضة الفلسطينية، ومن رحمها سيخرج ألبوم «وحدها بتبقى القدس» (2001). في تلك المرحلة التي شهدت واحدة من أكبر حملات اعتقال في التاريخ الفلسطيني لعشرات الآلاف من الشبان والشابات المنتفضين؛ سيظهر ألبوم «مرايا الروح» (2005) الذي ستكرسه للأسرى الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال. شكل العمل نقلة نوعية في مسيرتها؛ وسمح لها بتكوين جمهور واسع في العالم العربي. بعدها بعام وتزامناً مع «عدوان تموز»، يصدر لها «لم تكن تلك حكايتي» لتهديه إلى الشعبين اللبناني والفلسطيني، تسلّم به على أحبابها في لبنان وتحتفي بالانتصار: «طير يا هوى/ سلم على الحباب/ أسرع يا هوى من الطير/ إركب على ريحك وانزل تلا لبحار../ تاري هوى التيار جايب معاه اخبار تحت الجرح شايل فرح». تتبعه بـ «مواسم البنفسج» (2007)، و بـ «نوار نيسان» (2009). ستندلع الثورات العربية التي ستجد فيها أملاً في تحرر الشعوب العربية الذي يصب في تحرير بلدها، قبل أن تصاب بخيبة أمل كبيرة. سيظهر ألبومها الأخير «تجليات الحب والثورة» (٢٠١٣)، ستغني فيه كلمات راشد حسين «الله أصبح لاجئاً يا سيدي» وكلمات عمارة عمراني في جنازة المناضل التونسي شكري بلعيد «الحُر ما بين الأنذال مخنوق يُصعب صياحو». ستغني كلمات بدر شاكر السياب «غريب على الخليج» وتصدح «واحسرتاه.. يا عراق»، وستنأى بروحها مع شعراء الصوفية ابن الفارض والحلاج وابن عربي.
أكثر من ثلاثة عقود من الموسيقى والمقاومة، أرَّخت فيها الفنانة سيرتنا الذاتية، وأعطتنا درساً لا ينسى عن العلاقة العضوية بين الفنان وأرضه ومحيطه السياسي والجغرافي. في عالم الخذلان والأقنعة والنفاق والتطبيع والبيع والشراء؛ ظلت حرة مقاومة أبية، قاومت الاحتلال حتى آخر نفس، في الميادين والشوارع وعلى خشبات المسارح. هي أم الموسيقى الفلسطينية الحديثة، واحدة من أول الفنانين أو ربما أولهم في إدخال الأصوات الجديدة إلى الموسيقى الفلسطينية. ظلت تتنقل بجرأة وخفة بين الروك والبوب والبلوز والفيوجن، تصهر التهاليل الفلسطينية مع موسيقى العالم وتقدم التراث في أصوات عصرية، ولا تتردد في تطويع المؤثرات الإلكترونية والإيقاعات الجديدة.
بجانب معركتها الطويلة مع الاحتلال، دخلت عام 2009 في معركة جديدة مع سرطان الثدي. وبدلاً من أن تستكين، شهدت في تلك الفترة نشاطاً كبيراً وعروضاً كثيرة، فكانت بجسارتها مصدر إلهام كبير لملايين المصابين بهذا المرض في العالم، وكانت تقسم وقتها بين العلاج والغناء. ظلت تصدح بصوتها حتى 2016 الذي سيشكل ضربة قاسية لها، إذ ستفقد صوتها، سلاحها الأول ومصدر فنها ورزقها، جراء شلل في أحد أوتارها الصوتية. الفنانة التي كرست حياتها لفلسطين والمقاومة والحرية، ستدخل في أزمة مالية، لن تطلب مساعدة أو صدقة، بل ستتجه إلى التطريز كي تعيش.
صهرت التهاليل وقدمت التراث بأصوات عصرية


في كل مرة كان يشتد عليها المرض وتدخل المستشفى، كانت تطل علينا من صفحتها الفايسبوكية تطمئننا وتختم رسالتها بـ «سمايلي»، وتعود بعدها كمنتصرة إلى شرفة منزلها المطلة على «مرج ابن عامر». في زيارتها الأخيرة إلى المستشفى، كتب شقيقها فراس على صفحته يطمئننا، وأحسسنا وقتها أن ريم لن تكتب لنا مجدداً. مكللة بالعز والفخر محمولة على أكتاف أبناء الناصرة، حُمل نعشها أول من أمس في شوارع عاصمة الجليل المحتل، وأصوات الآلاف خلفها تصدح بـ «موطني».
لسخرية التاريخ، ولدت في العام الذي وضعت فيه الآلة الاستعمارية الإسرائيلية خطتها لاستخدام الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي التي احتلتها عام 1948: الجنسية «العربية الإسرائيلية». استُدعي الفلسطينيون للمشاركة في إضافات «عربية» في الدعاية الصهيونية الخادعة للديمقراطية الجديدة للدولة الاستعمارية. ستقضي ريم طوال حياتها تنكر وتحارب هذه الكذبة الاستعمارية: لم تكن ولن تصبح أبداً «عربية إسرائيلية» بل فلسطينية تعيش في فلسطين المحتلة.
«احرقوا جسدي بعد مماتي، وعبّئوا رفاتي في زجاجة عَرَقٍ نصراويّ، واحشوها بالبنزين لتتحول الى مولوتوف في يد مُقاوم يرجم بها أعداء الحبّ وطُغاة الأرض». هذه كانت كلماتها في وقت اشتد عليها المرض. هي التي ستبقى علامة ورمزاً في التاريخ والفن الفلسطيني، تذكرنا أن لا فن بدون كرامة، ولا كرامة بدون مقاومة.



الرؤية الأخيرة
قبل رحيلها، كتبت ريم بنا على صفحتها في 5 آذار (مارس): «بالأمس، كنت أحاول تخفيف وطأة هذه المعاناة القاسية على أولادي، فكان علي أن أخترع سيناريو. فقلت: لا تخافوا. هذا الجسد كقميص رثّ لا يدوم. حين أخلعه، سأهرب خلسة من بين الورد المسجّى في الصندوق، وأترك الجنازة و«خراريف العزاء» عن الطبخ وأوجاع المفاصل والزكام... مراقبة الأخريات الداخلات.. والروائح المحتقنة... وسأجري كغزالة إلى بيتي... سأطهو وجبة عشاء طيبة... سأرتب البيت وأشعل الشموع... وانتظر عودتكم في الشرفة كالعادة... أجلس مع فنجان الميرمية.. أرقب مرج ابن عامر.. وأقول: هذه الحياة جميلة... والموت كالتاريخ... فصل مزيّف».