في مقدمة كتابكم، تطرحون مسألتين في آنٍ معاً هما «الفوضى الفكرية» التي تشوش نظرة مجتمعاتنا للواقع، ومسألة الإصلاح المعرفي. هلا عرضتم لنا المتطلبات الضرورية لتفكيك الخطاب التبسيطي والفرضيات الجوهرانية التي غالباً ما تشكل منطلقاً لتحليل المجتمعات العربية؟
بدأت هذا العمل قبل سنوات عدّة من خلال سلسلة من الكتب، أبرزها «نحو مقاربة دنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط: تحليل ظاهرة توظيف الدين في السياسة الدولية» (صدر باللغة الفرنسية عن «لا ديكوفرت»/ 2012، وترجم إلى العربية عن «دار الفارابي»، 2014). في هذا الكتاب، قمت بتفكيك جميع الحجج ذات الطابع الحضاري والديني التي تُوظف لتحليل النزاعات وتحجب نظر الرأي العام عن واقع الإمبريالية التي يقودها حلف شمال الأطلسي. هذا الحلف الذي كان أبعد ما يكون عن الاندثار بعد انتهاء الحرب الباردة، عاد بزخم غير مألوف ليكون سبباً في اندلاع حرب يوغوسلافيا وأحداث القرم والتدخلات العسكرية الضخمة في العالم العربي.
الثقافة العربية قبل ظهور الإسلام وبعده ثقافة شعر وموسيقى في المقام الأول
لقد تحققت نبوءة هانتنغتون القائلة بصراع الحضارات تلقائياً، لا سيما حين جاء الرد على الإرهاب، المزعوم بأنه إسلامي، على شكل تدخل عسكري وليس من خلال الوسائل الكلاسيكية القائمة على تأدية دور الشرطي. نحن اليوم نواجه فوضى فكرية عارمة، أحاول في ظلّها تصويب الأمور في الميدان المعرفي. مسعى ليس بسهل نظراً إلى أنّ عدداً كبيراً من الأكاديميين أكانوا عرباً أم أوروبيين أم أميركيين أم مختصين في الشرق الأوسط، فضلاً عن الثقافة الإعلامية المهيمنة، يستخدمون مفاهيم خاطئة تحجب الواقع المتمثل في استعادة الإمبريالية زخمها في مطلع القرن العشرين.
لقد قمتم أيضاً بتفكيك الخطاب الداعم لعدم التفريق بين الإسلام والإرهاب، مع تحليل لأثر النصوص الدينية والصور النمطية. ما هي الأسباب التي أسهمت في نشر الصور النمطية وحالت دون فهم الأسباب الجوهرية للظاهرة؟
يمثل النص الديني هذا، الذي يندرج إلى حد كبير في إطار ما أسماه أحد المفكرين الروس بـ «اغتصاب الجماهير» في القرن العشرين، ترداداً مستمراً للأكذوبة نفسها عملاً بالمقولة الشهيرة «كذبوا ثم كذبوا حتى تصبح الكذبة حقيقة». ما يسميه علم الاجتماع الأميركي بـ «السرد القصصي»، يبقى محفوراً في الذاكرة. ويبدو لي أن كروبوتكين (كاتب ثوري روسي) بنفسه شبّه «اغتصاب المستهلك» بـ «اغتصاب الجماهير» عبر الترهات. أعتقد أنه ما من حرب أو أعمال عنف تنشب بسبب وجود جماعة من الأخيار من جهة، وجماعة من الأشرار من جهة أخرى كما تصفه لنا النصوص الدينية، بل إن النزاعات تنشب على الدوام نتيجة الترداد الهوسي لبعض العبارات التي تحمل في طياتها إيحاءات عاطفية قوية وتسوّغ بالتالي أعمال العنف. برأيي، فإن الكلمات هي القاتلة. أما السلاح، فليس سوى الأداة التي تنفذ ما أمرت به المصطلحات في عمليات اغتصاب الوعي الجماعي هذه.
ما نتائج حصر البحث في الإشكاليات الضيقة لصعود الإسلام الراديكالي؟ ألا يسهم الترويج لعدد كبير من المؤلفات حول موضوع الإسلام الراديكالي في نشر الفوضى الفكرية التي تدرسونها؟
بالرغم من سهولة اتهامنا بالفبركة في نقل هذه الحقيقة، الثابت أن محاربة التمدد الشيوعي بين الشباب والشابات في البلدان الإسلامية أوجبت إعادة أسلمة البلدان الإسلامية. وقد تطلب الأمر سلب هؤلاء كيانهم الوطني وثقافتهم العربية الغنية بالتنوع التي لا تقوم بأي شكل من الأشكال على الجانب الديني فقط كما تحاول جميع الدراسات الأكاديمية تصويره اليوم.
الثقافة العربية قبل ظهور الإسلام وبعده ثقافة شعر وموسيقى في المقام الأول، ولقد كانت ثقافة العلم والفلسفة والأنثروبولوجيا متى تبادرت إلى أذهاننا رحلات ابن بطوطة وابن جبير، وأتى ابن خلدون ليتوج كل ذلك بكتابه الشهير.
التشبث بفرضية مفادها أن العقل العربي هو عقل ديني في جوهره منذ قدوم الإسلام لا يعدو كونه تشويهاً لا يعكس الحقيقة على الإطلاق. لكن لسوء الحظ، ظهر مفكرون عرب عملوا عن قصد أو غير قصد على ترسيخ هذا النص الديني، وأعني على وجه الخصوص الأعمال التي لحقت بركب هشام جعيط وكتابه «الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر» (عنوان الكتاب الشهير صدر عام 2008 عن «دار فوليو»)، الذي يستعيد فيه جعيط نشوء الخلاف بين السنة والشيعة. لكني أقصد أيضاً جميع كتابات محمد عابد الجابري (فيلسوف مغربي) التي خلص فيها إلى تصوير العقل العربي على أنه لا يحيد قيد أنملة عن النبوءة القرآنية. وبأسلوب مبطن، يميز الجابري بين عقل مشرقي يعبر عن فكر مستقل بصبغة الباطنية الشيعية وعقل وضعي بدرجة أكبر تميّز به المغرب العربي وكان ابن رشد رايته.
فرضية أن العقل العربي هو عقل ديني في جوهره لا يعدو كونه تشويهاً
بمعنى آخر، يمكن للمغرب العربي الوصول إلى إسلام عقلاني في حين أن هذا التطور سيصل إلى طريق مسدود في المشرق العربي بسبب التصوف الشيعي. إن كان أحدهم اليوم متخصصاً في الشرق الأوسط من دون الحديث عن الإسلام، فإنه لن يجد مكاناً له في المجال الأكاديمي.
من جانب آخر، تسنى لي أن أسترجع التاريخ لأؤكد أن الزلزال الاجتماعي الذي وقع في قلب المجتمعات العربية إثر رفع أسعار البترول عام 1973 كان السبب في تضخيم نفوذ السعودية وغيرها من ممالك وإمارات الخليج على حياة الشعوب العربية وفي منظور القادة الأوروبيين.
بمَ تنصحون لتحطيم الفرضية الجوهرانية لهانتنغتون حول صدام الحضارات التي أسست لدوغما جيوسياسية وما زالت تشكل البوصلة لتحليل التطورات في العالم العربي؟
قمت بتفكيك هذه الفرضية بالكامل في كتابي الجديد وقدمت البراهين على أنها مخالفة للواقع على الأرض. لا أرى أي صدام للحضارات وسط اصطفاف جميع حكومات البلدان الإسلامية، ما خلا إيران وسوريا، إلى جانب حلف شمال الأطلسي. هل ترسل الطبقات الميسورة أولادها للدراسة في مكة أو إسلام أباد أو الأزهر؟ كلا، بل ترسلها إلى الولايات المتحدة أو أوروبا.
من جهة أخرى، لا يشغل تفكير الفقراء من المسلمين إلا فكرة واحدة ألا وهي عبور الأبيض المتوسط على حساب أرواحهم لبلوغ الجنة الغربية. ليس الارتباط ببعض الحركات الإرهابية الخاضعة إلى حد كبير لإمرة أجهزة الاستخبارات العربية والتركية والغربية السبب وراء صراع الحضارات، وإنما الغاية إظهار الأمر على أنه كذلك. يشكل نشر الجيوش بدل مكافحة الإرهاب بوسائل الشرطة التقليدية ووضع شعوب العالم تحت المراقبة بالاعتماد على البيانات الضخمة، الوصفة المثلى للفشل.
أدت التدخلات التي قادتها الدول الغربية وحلف شمال الأطلسي في المنطقة باسم حقوق الإنسان إلى زعزعة الحكومات وتقويض المجتمعات وما زالت تكبد الشعوب تداعيات مأساوية. كيف تفسرون غياب العقوبات في الدول التي يقال إنها ديمقراطية بحق الحكام الذين قادوا هذه الحروب المروعة؟
لطالما اقترنت الديمقراطية بالإمبريالية بدءاً بأثينا. لسوء الحظ، فإن الدول الديمقراطية هي المسؤولة عن جرائم لا تحصى ضد الإنسانية كما يظهره لنا تاريخ الاستعمار لا سيما المستعمرات الاستيطانية التي أقيمت في الجزائر وجنوب أفريقيا واليوم فلسطين. الحقيقة أنّ الرأي العام الملجوم بفكرة صراع الحضارات تحت تأثير القطيع، لا يناقش سياسات حكومته ولا يطلب منها فاتورة تكاليف حروب الغزو. عندما نتذكر أن جورج بوش وطوني بلير اللذين ارتكبا جريمة ضد الإنسانية على أساس أكاذيب أفلتا من العقاب، نتذكر أيضاً ووترغيت (فضيحة التنصت غير الشرعي على الحزب الديمقراطي) التي أطاحت بالرئيس الأميركي السابق نيكسون، وأضيف إلى ذلك رئيس الوزراء البريطاني السابق أنطوني إيدن الذي استقال إثر أحداث السويس والرئيس الأميركي السابق كلينتون الذي أقصي بعد فضيحة جنسية في البيت الأبيض. الديمقراطية مشلولة بالكامل فيما تسعى فرضية صراع الحضارات إلى إدامة هذا المأزق: إعلان حالة الطوارئ وتبريرها بأننا في حالة نزاع تجنباً للخوض في ما تفعله الحكومات.
كيف تفسرون مواصلة العدو الإسرائيلي استراتيجية بناء المستعمرات والتدمير الممنهج لأسباب وجود الشعب الفلسطيني؟ وما رأيكم بالدعم غير المشروط الذي تقدمه القوى الغربية لدولة استعمارية متجاهلة أبسط قواعد القانون الدولي؟
تناولت هذا الموضوع مراراً في كتاباتي، لا سيما «المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين». إنهما المذهب التوحيدي القديم بخاصة في صيغته البروتستانتية والإرث الهيغلي للفكر الفلسفي في أوروبا والولايات المتحدة اللذان أنتجا فكرة إنشاء دولة إسرائيل على أنها المسار التاريخي العادل من دون أي مراعاة لعذابات الشعب الفلسطيني. بالعودة إلى الفصل الذي يتناول استعمار الجزائر، نرى أن هذا الاستعمار جاء باسم الحضارة والتقدم. أما استعمار جنوب أفريقيا فباسم العهد القديم، في حين أن ثمة مشكلة في وظيفة النموذج التوحيدي الذي ما زال يحيا في عقول المسلمين واليهود والمسيحيين. لذا يجب فك الاستعمار عن عقولنا في هذه النقطة. إسرائيل، كما السعودية وباكستان، ليست دولاً قائمة بالاعتماد على ذاتها فحسب، بل برعاية الولايات المتحدة وأوروبا. ما إن تسحب الأخيرتان دعمهما غير المشروط، حتى تختفي هذه الدول بسرعة كبيرة.
في ظل الفوضى العارمة التي يشهدها العالم العربي اليوم، ما هو البديل برأيكم؟ ما المستقبل الذي ينتظر الشرق الأوسط؟
لا أرى بدائل حتى اللحظة، فنحن الآن في مرحلة التدمير الذاتي كما وصفتها. مرّ العرب بدينامية الفشل، وأصبحوا الآن في دينامية التدمير الذاتي. تشعل السعودية حروباً شعواء بمباركة الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، نمر في فصل خيالي تلعب فيه قطر دور الضحية التائبة مع أنها كانت تنتهج سياسة شمال حلف الأطلسي بحذافيرها والقائمة على زعزعة سوريا وليبيا. وإن دل ذلك على شيء، فهو يدل على مدى تفكك الدول العربية حتى بين مجموعة دول شبه الجزيرة العربية المتجانسة للغاية. إن تجنيب الدولة السورية الانهيار لا يعني انتهاء الحرب، فنحن ما زلنا في حقبة تسعى فيها القوى العظمى إلى ترسيخ مناطق نفوذها. لن يعترف الأميركيون بالهزيمة بهذه السهولة طالما أنه ما زالت لديهم موارد مهمة في متناول أيديهم.