لندن | من الصعب حقاً أن تخلو لغة من لغات البشرية من ترجمة لرواية «البؤساء» (1862) لفيكتور هوغو (1802 ــــ 1885)، في الوقت الذي ما زالت تجذب عروضها المسرحية المتواصلة منذ عقود طويلة، ملايين المشاهدين، إلى جانب النتاجات السينمائية التي حظيت بوافر من النجاح... تلك التي بثت فيها الحياة بعيداً عن صفحات الكتب.
في المقابل، فإنّ قراءة الرواية هي الأخرى لم تصب بالوهن والتراجع، رغم المساحة الزمنية الطويلة الفاصلة بين إصدارها الأول عام 1862 لغاية الحاضر الماثل.
الرواية ملحمة متكاملة متقنة الصنع جمع فيها الكاتب بين السياسة والتاريخ والمجتمع، من خلال تأمل فلسفي في أعماق النفس البشرية وصراعها الدائم بين الظلم والعدل، ومشاعر العشق المتأجج واستيقاظ ضمير الإنسان في لحظة التخلي عن آثامه. تحوي الرواية أيضاً الشعر والنثر والتوثيق، والتوزيع السكاني للمدينة الثائرة آنذاك. تسلّط الضوء على مرحلة تاريخية مهمة تلت الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، ومقاربة صورة الثورة والتأثيرات التي خلفتها شعاراتها على مجمل تفاصيل الحياة الفرنسية، من خلال شخصيات الرواية ومصائرها.
نشرت الرواية للمرة الأولى في نيسان (أبريل) عام 1862 في خمسة مجلدات، هي: «فانتين»، «كوزيت»، «ماريوس»، «قصيدة شارع بلوميه الرعائية وملحمة شارع سان دوني»، و«جان فالجان». بدأ هوغو المسودة الأولى عام 1845 وأكمل الرواية في «غيرنسي» حيث عاش منفياً إثر خلافه مع لوي نابليون بونابرت، وقطن في منزل مع زوجته وأولاده.
في كتابه «رواية القرن... المغامرة الاستثنائية للبؤساء» (The Novel of the Century: The Extraordinary Adventure of Les Misérables) الصادر أخيراً عن دار «فارر، شتراوس وجيرو» في نيويورك، يستعرض ديفيد بيلوس أستاذ الأدب الفرنسي في «جامعة برنستون»، مقاربات كتابة الرواية والملابسات التي رافقت إنجازها، سارداً سيرة الرواية أساساً، ومن خلالها يتناول هوغو باعتباره مبدعها، إذ يعتبر من الجيل الأول الذي دوّن الثورة الفرنسية. هوغو هو الابن الثالث للجنرال جوزيف ليوبولد هوغو، ولد في السادس والعشرين من شباط (فبراير) عام 1802 في بيزانسون. ترك الدراسة مع إفلاس والده إثر هزيمة نابليون في واترلو عام 1815. وفي سن التاسعة والثلاثين، انتُخب من قبل الأكاديمية الفرنسية بعد محاولات عدة باءت بالفشل، ثم انتخب بعد سبع سنوات ليكون محافظاً عن باريس. نشر أول رواياته بعد مرور سنة واحدة من زواجه عام 1823. تأثر في بداياته بكتابات شاتوبريان، الأكثر شهرة في الحركة الأدبية الرومانسية أوائل القرن التاسع عشر. مارس الرسم كهواية ولم يتفرغ له مطلقاً. ورغم تأييده للحكم الملكي، غير أنه تغير لاحقاً لصالح البديل الجمهوري، إثر ارتباطه المباشر بالعديد من القضايا السياسية، واطلاعه على الأحوال الاجتماعية المتردية التي كانت تعانيها الغالبية الساحقة من الفرنسيين.

يستعرض ديفيد بيلوس سيرة هوغو الذي يعتبر من الجيل الأول الذي دوّن الثورة الفرنسية


تعتبر «البؤساء» من أشهر ما كتبه هوغو وتحفته الأروع، مثلما يصفها بيلوس، رغم أنه كسب شهرته من شعره، وبعض مسرحياته، إذ بدأ حياته شاعراً. الخطوة الأولى في مسار كتابة «البؤساء» بدأت عام 1845. أنجز المخطوطة الأولى عام 1848 (المخطوطة محفوظة في «جامعة باريس السابعة») وعاصر هوغو في فترة كتابته للرواية ثلاث ثورات: 1789، 1830، و1848، مدوّناً بين طيات المخطوطة: «الحرية سوف تشع من فرنسا، سيراها الجميع لا محالة، عدا فاقدي البصر». وهو بذلك سلط الأنظار على تفاصيل الثورة الفرنسية لتغدو العمود الفقري للعمل، لكن بمنظور روائي.
مع نهاية المخطوطة الأولى عام 1948، سقطت الحكومة لتتفاقم الأزمات. وحين عاد إلى كتابة المخطوطة الثانية عام 1860، اضطر إلى مغادرة فرنسا نحو جزيرة «غيرنسي» بعدما اعتقلت السلطات اثنين من أبنائه. ومن غرفته المطلة على البحر، أنجز المخطوطة الثانية.
تبدأ أحداث الرواية مع إطلاق سراح جان فالجان، الذي قضى تسعة عشر عاماً من حياته في السجن، خمسة منها لسرقته خبزاً لأخته وأطفالها الجائعين، والباقي عن محاولاته الهرب. بعد خروجه، ألقت به الأقدار في يد أسقف يدعى ميرييل، فأحسن معاملته وساعده على المضي قدماً في حياته. يغيّر فالجان اسمه إلى مادلين، وتمر الأعوام، ليغدو من أثرياء المدينة وأصحاب الأملاك، ثم يُنصبه أهل البلدة عمدتها، لكن الضابط جافيير الذي يعرفه منذ فترة سجنه لم يقتنع بأنه أصبح شخصاً أفضل وحاول الإيقاع به، حتى اضطر إلى تسليم نفسه لحماية شخص بريء اتهمه الضابط بأنه جان فالجان، ليهرب من السجن ويعيش ما تبقى من حياته طريداً. واجه فالجان خلال سبعة وثلاثين عاماً ـــ المدة التي تستغرقها الأحداث ـــ قوتين: قوة القانون والدولة، وقوة الخارجين عن السلطة، غير أنه ينتصر على القوتين بصبره وقوة إرادته وإيمانه بالحق.
يؤكد بيلوس أنّ عدد نسخ الطبعة الأولى، بلغت 6 آلاف بيعت على الفور، لتطبع «دار لاكروا» مئة ألف نسخة، مع اتساع طوابير الانتظار أمام المكتبات. ترجمت الرواية حينها إلى الإسبانية والألمانية والإنكليزية والإيطالية، ثم توسعت دائرة الترجمة لتشمل أغلب اللغات، وبطبعات متمايزة، آخرها باللغة الصينية التي صدرت عام 1984، في حين صدرت طبعة جديدة منقحة باللغة الإنكليزية عام 2008. يشير بيلوس إلى أن رواية «البؤساء» تتوازى مع رواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز التي صدرت عام 1859، إذ تتحدثان عن مساحة زمنية محددة من تاريخ الثورة الفرنسية، وتسلطان الضوء على الأحداث التي شهدها حي سان أنطوان الباريسي. تبدأ الروايتان من خروج الشخصية الرئيسية من السجن، بعدما أمضى فالجان تسعة عشر عاماً، وهرب من السجن، فيما أمضى الدكتور الكسندر مانيت، الشخصية الرئيسية في «قصة مدينتين»، 18 عاماً في زنزانة منفردة في البرج الشمالي من سجن الباستيل، وأخلي سبيله في نهاية المطاف.
اتسعت أحداث «البؤساء» لتشمل 37 عاماً، بدأت عام 1796 وانتهت عام 1833، بينما شملت أحداث «قصة مدينتين» 36 عاماً، بدأت عام 1757 لتختتم عام 1793. كأن أحداث رواية «البؤساء» هي استمرار لرواية «قصة مدينتين».
اضطرت دار النشر «لاكروا» إلى الاستدانة من مصرف «اوبنهايم» مبلغاً تقدر قيمته اليوم بثلاثة ملايين جنيه إسترليني لتسديد عقد احتكار وقعته مع هوغو على مدى ثمانية أعوام. ويشير بيلوس إلى أنّ الأمر يبدو أقرب إلى مزحة، إذ يتم رهن دار النشر لصالح مصرف رأسمالي بغرض إصدار رواية عن الفقراء. وحين رحل هوغو في الثاني والعشرين من أيار (مايو) عام 1885، وكان في الثالثة والثمانين من عمره، اصطف مليونا مشيع في شوارع باريس لوداعه. هو الحشد الأكبر الذي تشهده العاصمة الفرنسية، متجاوزاً عدد المحتفلين بيوم النصر.