كتاب فوزي يمّين «في انتظار الانفجار الآتي» (دار سائر المشرق) ثمرة عيش لبناني صرف، يلّف قارئهُ بهالة من القلق، من دون أن يُقدّم وعداً بعيش جديد، كما لو أنّ الكتاب هو الحقيقة اللبنانية الوحيدة، فيضع قارئه حيال معنى وجوده التعس، على هذه البقعة تحديداً من الأرض.الكتاب على صيغته التي سنتناولها، يأتي بعد سبع مجموعات شعرية من بينها كتاب واحد بالصيغة عينها، سبق للكاتب أن نشره تحت عنوان «ألف وتاء طويلة» (2008).
ينفي يمّين علاقة عنوان كتابه «في انتظار الانفجار الآتي» بالحرب، موضحاً أنّ العنوان مأخوذ من إحدى المقالات التي تتحدث عن الانفجارات، بدأ في كتابتها منذ موجة الانفجارات الأخيرة التي راحت تضرب لبنان، أي منذ عشر سنوات تقريباً. تحوي دفتّي الكتاب، مروحة موضوعات واسعة يقاربها الشاعر، وتشي بذائقته الخاصة حيال الفنون والشعر والغناء. على سبيل المثال، يقدم لقارئه ترجمات أغان يُحبها هو أولاً، منها لبوب ديلان، وليونارد كوهين، وكورت كوباين، وجون لينون وجيم موريسون، وفرقة «بينك فلويد»، وترجمات شعرية عن بودلير واميل سيوران وآلان روب غرييه وغيرهم، الى كتابات ليمّين صنّفها هو نفسه بالمناسباتية، ككتابته عن سعيد عقل وأنسي الحاج... وصولاً الى كتابة رهيفة لافتة تحت عنوان «فوتبول: ساق بيليه أم بريجيت باردو؟» الى عناوين أخرى في الموضوع عينه. كتابة يميّن في جديده، تحضن بدفء جماليات الكتابة السيكولوجية، وتلك الروحية أو متعدّدة الأبعاد الثقافية، ترفد قارئها بتلك المشاعر الإنسانية المبتعدة عن تلك التعليمية الضخمة.
يميّن يتبع ما يمكن للكتابة أن تكتشفهُ في موقف ما، في ذعر ما، في موت ما. ولكتابته قوة غير عادية للاحتواء، وهذا يتطلب بالطبع، تحوّلاً عميقاً في سرد حالة معينة، لصالح استنباش «دواخلها» على بساطتها أو هولها.
سوف يُحبّ قارئ يميّن، ذلك الميل الى التركيب بشكل تصاعدي يخطف النفاس، وأسلوب الكاتب في التغيير في شكل السرد المتعارف عليه، بطريقة متقدمة جداً تشي بثقافة يميّن وحساسيته في الدرجة الأولى، وكذلك بهشاشته الملائكية للملائكة الطيبين، حيال الإحساس بالخطر.
يكتب يميّن في تلك اللحظة الوجيزة بين الموت والحياة، بين الانفجار وترّقب ما سوف يليه، حتى لتفترق صورة حياتنا اللبنانية مع الحياة نفسها، وتقف متشظية تسخر منّا، وتبدأ تحكمنا ويحكمنا الرعب. تلك اللحظة، أو ذلك الزمن المقتطع بين انفجار وآخر، يغدو أكثر حقيقية من أي شيء، كأننا ظل هذه الحقيقة وليس العكس.
في الواقع، فالانفجارات هنا وهناك التي يرقبها يمّين، تُحوّل حياتنا الى قدر يمتّصنا، يضغط على أعصابنا وصدورنا.
الهوس بالاختلاف ليس ابتداع كتابة جديدة عند يمّين، ولكنه القلق الذي يُرخي بثقله ويفرض نفسه على الكاتب، وهو أكثر الصيغ مواءمة لإرادة كتابة مختلفة.
يتعامل يمين في ترجماته لمُغنيه الأثيرين الذين ذكرنا بعضهم، مع مصادر إلهامه ومتعته كما لو كانت عملاً موسيقياً فاتناً، ونادهاً للترجمة.
يمّين الذي لم يُغادر وطنه، ولم يُغادرهُ وطنه، فالشعر بالنسبة له وطن أو منفى، سكنهُ صغيراً وسكنهُ الشعر، وهجرهُ مراراً وهجرهُ الشعر – على ما يقول – غير انه يعود إليه دوماً ويرتمي في أحضانه لتأخذهُ الكلمات الى مطارح مجهولة في الكتابة، والى التجريب في الشكل والمضمون.
يكتب يمّين ليتحرّر من مشاعره أولاً، ثم مما يضغط عليه ويُمسكهُ من مفاصله كرطوبة، مستمداً لغته الشعرية من الحياة اليومية (وحياتنا اليومية اللبنانية زاخرة بالتفاصيل الجميلة والتفاصيل المقلقة) من الشارع، والأصدقاء والمقاهي والأرصفة، من اللحظات المرخية الفالتة ومن الفسحات الهوائية الهشة والمضروبة. كتابة مشهدية وذاكرة سينمائية لا يُعيقها البقاء في المكان الواحد (زغرتا)، فالحضور الشعري بالنسبة إلى فوزي يمّين ليس حضوراً جغرافياً، بل حضور نفسي.