في «الحداثة الممكنة» (دار الشروق المصرية) تؤكد الكاتبة المصرية أنّ «الساق على الساق فيما هو الفارياق» هي الرواية الأولى في تاريخ الأدب العربي الحديث‏... لكنّ صاحبها أحمد فارس الشدياق حورب وهُمِّش بسبب مواقفه السياسيّة والاجتماعية
محمد شعير
يبقى سؤال «باكورة» الرواية العربية مطروحاً أمام النقّاد والمهتمين بالأدب العربي. هل كانت «زينب» المصرية لمحمد حسين هيكل هي أول رواية عربية؟ أم «بديعة وفؤاد» للروائية اللبنانية لبيبة هاشم؟ صراع بدا لفترات طويلة كأنّه صراع «قطري» يتجدّد بين الفينة والأخرى وتتغاير فيه الرواية المطروحة للريادة وفق كل ناقد: مرّة تصبح رواية «علم الدين» لعلي باشا مبارك، وأحياناً رواية «غابة الحق» لفرانسيس المراش، ومرة ثالثة تصبح رواية خليل خوري اللبناني‏ «وي‏..‏ إذن لست بإفرنجي»‏ التي كتبها عام ‏1859 أو «الأجنحة المتكسّرة» لجبران خليل جبران... وهكذا يستمر الصراع!
الروائية والناقدة رضوى عاشور تقدّم طرحاً مغايراً في كتابها الجديد «الحداثة الممكنة» (دار الشروق المصرية)، إذ تؤكد أن رواية «الساق على الساق فيما هو الفارياق» التي كتبها اللبناني أحمد فارس الشدياق عام ‏1855‏ هي الرواية العربية الأولى في تاريخ الأدب العربي الحديث‏. الأسباب التي توردها صاحبة «ثلاثية غرناطة» كثيرة تؤكد بها وجهة نظرها، لكن يظل سؤال الريادة ثانوياً تتجاوزه سريعاً، إذ تحاول «توريط القارئ عبر الاشتباك مع النص ذاته» و«طرح أسئلة تتعلق بالتاريخ عموماً وبالتاريخ الأدبي على وجه الخصوص، وما تملكه المؤسسة النقدية من سلطة التهميش أو التصدير وتشكيل ذائقته الأدبية».
إذاً السؤال الذي تطرحه المؤلفة: لماذا أُسقط إنجاز الشدياق وقد أنتج النص الأدبي الأغنى والأقوى في الأدب العربي في القرن التاسع عشر؟ كما أنّ اللغة العربية الحديثة تدين له بمصطلحات عديدة وضعها واستخدمها فشاعت بين الناس، منها الاشتراكية والجامعة ومجلس الشورى والانتخاب والجريدة والباخرة والمستشفى والصيدلية والمصنع والمعمل والمتحف والمعرض والملهى والحافلة وطابع البريد والملاكمة والممثل والسكة الحديد وغيرها؟
السؤال أجاب عنه فواز طرابلسي وعزيز العظمة، إذ قالا إنّ سبب تهميش الشدياق يعود أساساً إلى مواقفه الجذرية من القضايا السياسية والاجتماعية، وبينها موقفه من المرأة والجنس ومهاجمة الكنيسة... لكن هل هذه الإجابة مقنعة؟ وتضيف المؤلفة إلى سؤالها أسئلة أخرى‏:‏ لماذا لم يعتبر الشدياق الرائد الأول للنهضة، وقد طرح من موقع متقدّم كل القضايا الأساسية، كقضايا الاستبداد المعرفي وحرية المعتقد والتعبير وحريّة المرأة وقضية العلاقة بالموروث الثقافي والعلاقة بالآخر الغربي‏؟ ولماذا لم يتوقّف المغرمون بالحداثة وما بعدها عند القيمة التجريبية المدهشة لإنجاز الشدياق وهو يضرب عرض الحائط بالقوالب الجاهزة ويخلق نصاً يكاد يستعصي علي أيّ تصنيف مسبق بل ولاحق أيضاً؟‏! لماذا لم يتوقف الدارسون لقضايا الاستشراق عند ما قدّمه من نقد لأفكار المستشرقين، فبقي أباً مهمّشاً لا تنسب له ذريته ولا تعرف هذه الذرية أّنه والدها؟
أسئلة رضوى «شائكة وخلافية» تتفرع وتتشابك كي تنتج السؤال الأهم عن «مشروع النهضة المتعثر في وطننا العربي». من أجل ذلك، تعرض الناقدة أراء المؤسسة النقدية في الشدياق حيث كان الأب لويس شيخو صاحب أول إشارة إليه في كتابه «تاريخ الآداب العربية»، إذ صنّف روايته «لم يراع فيها جانب الأدب». أما جورجي زيدان فيرى أنّه «مجرد مرتزق وإن عظمت موهبته». وهذا هو المعنى الذي يشير إليه أيضاً أنيس المقدسي «لأجل المصلحة يترك المارونية ويعتنق المذهب الإنجيلي، ثم لأجل المصلحة يترك المذهب الإنجيلي ويعتنق الإسلام». أما روايته «الساق»، فيراها المقدسي «سيرة ذاتية تشوبها كثرة الاستطرادات». أما لويس عوض، فيقارن بين الشدياق ورفاعة الطهطاوي باعتبارهما أكبر مؤثرين في الفكر العربي: «كلاهما ثائر على ما وجده من قيم سائدة في بيئته الأولى». لكنّ الطهطاوي «جاد كل الجد، متفتح لكل جديد رآه، شديد الاهتمام بالقيم الإنسانية والاجتماعية»، بينما الشدياق «ماجن كل المجون، يحمل معه مشاكله الشخصية وآراءه ومعتقداته ومسلماته الموروثة، يشغله السلوك الفردي ولا ينتبه إلى أي شيء من المشاكل العامة إلا مشكلة الأخلاق الدينية». إذاً نحن إزاء مؤسسة نقدية «متحاملة»، ربما لأسباب شوفينية أو طائفية أو لاختلاف المواقف السياسية. تعرض رضوى ظروف كتابه «الساق» باعتبارها «فعل تمرّد مفاجئ... في مواجهة المهانة يبدع نصّاً كبيراً لا يملك كتاباته إلا إمام من أئمة البيان». النص إعلان لجدارته وجدارة قومه الإنسانية والتاريخية والإبداعية. وتكون اللغة أداة هذه الجدارة، يعلنها الشدياق برسوخ وثقة، مصدِّراً جلسته وهو يضع ساقاً فوق الأخرى. إذن كانت حداثة الشدياق حداثة مناقضة للحداثة الكولونيالية القائمة على قطيعة تاريخية وثقافية، ترفض الثنائيات.. وهو الأمر الذي لم يتحقّق في الحداثة العربية التي اختارت «مشروعاً أحادياً للحداثة» وهو أمر ليس سوى «وجه من وجوه الهيمنة الكولونيالية التى تملي على الوجود سياساتها وتاريخها وقوانين تطورها، ورؤيتها لتنظيم حياة البشر، تسقط خصوصيتهم لتملي عليهم خصوصيّتها». وربما لهذا السبب ظلّ مشروع الشدياق للنهضة «فعلاً لازماً» لم يتح له أبداً أن يغدو «فعلاً متعدّياً»!