ألغى محاضرته الأكاديميّة وبقي لمسابقة المصرف
لم يلقِ المعمار العالمي محاضرته أمس في «الجامعة اللبنانية ـــ الأميركية»، «لأسباب صحيّة» حسب المنظّمين. المعلّم الإيطالي الذي صمّم «دار بيريز للسلام»، أفلت من بعض الأسئلة المحرجة التي كانت تنتظره في بيروت، انطلاقاً من تنظيراته في الديموقراطية وعلاقتها الوثيقة بالعمارة

جاد نصر الله
حُرِمَ الطلاب والأكاديميون والمعماريون اللبنانيون لقاءً نارياً كان مقرراً مع معمار عالمي من طراز رفيع: إنّه ماسيميليانو فوكساس الذي أتى إلى بيروت في رحلة عمل، ثم اعتذر عن عدم تقديم محاضرته التي كانت مقررة أمس في الجامعة اللبنانية ـــــ الأميركية بسبب «مشاكل صحيّة» ألمّت به فجأة (LAU) 
لكنّ الأزمة لن تمنع مصمم «دار بيريز للسلام» من المشاركة في لجنة التحكيم التي أتى لأجلها أساساً.
 غنيٌّ هو المشهد الثقافي المعماري أخيراً. زها حديد، ريم كولاس، وجان بيار لو دانتيك، زاروا بيروت لإلقاء محاضرات في الصروح الجامعية. تصاميم جان نوفل، ونورمان فوستر، وأراتا إيسوزاكي بدأت ترتفع في سماء (وسط) بيروت. أسماء المعمارين اللبنانيين تبرز في محطات عالمية. أخيراً وليس آخراً، يأتي ماسيميليانو فوكساس إلى لبنان للمشاركة في لجنة التحكيم للمرحلة النهائية من مسابقة «المركز الرئيسي لمصرف BLC» التي ستختار بين المعمارَين نديم كرم وعصام برهوش. للوهلة الأولى، يبدو الحدث مشوقاً. مهما كثرت المبادرات لاستضافة أسماء عالمية في الصروح الجامعية، يبقَ التفاعل والتبادل الثقافي المعماري المباشر على المستوى النظري فقيراً. وبناءً على ذلك، يجب دعم كل جهد يبذل في هذا المجال. لكن «دعسة» LAU في استضافة فوكساس كانت ناقصة. بعدما دعا رئيس قسم العمارة في الجامعة مارون دكاش (كان أحد المشاركين الأساسيين في وضع التصور العام لإعادة إعمار ضاحية بيروت الجنوبية بعد عدوان تموز 2006) إلى حضور هذا الحوار المميز بين فوكساس وفيليب جوديديو، توجهت إليه الأكاديمية منى فواز من الجامعة الأميركية في بيروت في رسالة تسأله إن كان يعلم فعلاً أنّ ضيفه الكريم هو مهندس مشروع «دار بيريز للسلام»، وعن المعنى الرمزي لدعوته إلى بيروت في هذا الوقت الحساس الذي تمر به المنطقة. تحيل منى فواز إلى دراسة للباحث الأميركي اللبناني ساري مقدسي The Architecture of Erasure (عمارة المحو) والتي يرجع فيها الى مشروع فرانك غاري "متحف التسامح" الذي انطلق تشييده عام 2004 فوق أرض لمقابر فلسطينية يعود تاريخها إلى مئات السنين، وواجه اعتراضات كثيرة، إلى أن حَسم حكم قضائي القضية عام 2008 وسمح ببنائه، متجاهلاً حقوق المواطنين الفلسطينيين في مقبرتهم التاريخية.، وتقول إن المبنى الذي يحمل بصمات فوكساس يندرج في مشروع إزالة تاريخ فلسطين، وتبرير الهمجية الإسرائيلية الساعية إلى طمس الوجود الفلسطيني وتمويهه بغطاء ثقافي، وحضاري وديموقراطي. أما القيّمون على «دار السلام» فيؤكّدون، رغم الضائقة التي أخّرت اكتمال البناء، تصميمهم على «المضي قدماً في إنجاز المشروع». بل أكثر من ذلك، يبشّر هؤلاء بأنه «سيكون فضاءً مهمّاً لاحتضان كل المساعي والمبادرات، العربية والإسرائيلية، التي ستدفع قدماً العلاقات السلمية في الشرق الأوسط». تسأل فواز: «كيف ذلك ودار السلام هذا بُني في مدينة يحظر أساساً على غير الإسرائيليين العيش فيها؟».
لا يمكن أحداً تجاهل القيمة المضافة التي يمثّلها فوكساس في تاريخ العمارة المعاصرة. المعمار الإيطالي تاريخه المهني حافل بعشرات المشاريع المعمارية الناجحة في العالم التي ألهمت معمارين كثراً في أسلوبها التي يتحدى الكلاسيكية الحديثة. لكن، هل يكفي ذلك كي يستقبله اللبنانيّون بالأحضان؟ هل موقع هذا المعمار الفريد حجة مقنعة بيد القائلين بضرورة «فصل الأمور»، والتعامل بحياد مع النتاج الثقافي والفكري بمعزل عن خلفياته الإبداعيّة والإيديولوجيّة؟ أليس فوكساس نفسه من علّمنا أنّه «لا يمكن فصل العمارة عن المجتمع والسياسة والثقافة»، وأن «الديموقراطية هي الابتكار الحقيقي في العمارة».
يدهشك باني «دار بيريز للسلام»، هذا الصرح «الحضاري» في دولة تأسست على المذبحة، ولا تضمن بقاءها إلا عبر السياسة الاستعماريّة، حين يحكي عن الديموقراطية التي «لا يمكنك أن تدرك معناها إلا حين تفقدها»، أو حين يعبّر عن ألمه لفقدان مشهد هدم القبة الذهبية في سامراء، ومركز بوذا في أفغانستان. «هنا تشعر بأنك خسرت شيئاً ـــــ يقول ـــــ فالعمارة جزء لا يتجزأ من المجتمع». إذاً، فوكساس على قدر عالٍ من الوعي لحق الشعوب في الدفاع عن وجودها وهويّتها وتاريخها، ولما تحتلّه الثقافة من أهميّة في هذا الكفاح، ومع ذلك يغمض عينه عن جرائم إسرائيل ويشتغل على تبييض صفحتها. المعمار الإيطالي حرّ بمواقفه في النهاية، لكن أن يأتي إلى بيروت ليتحفنا بنظرياته عن الهوية والانتماء والثقافة الديموقراطية، فذلك أمر آخر.
توقف بناء «دار بيريز للسلام» بسبب ضائقة مالية، وهناك حملة تبرعات حول العالم لاستكماله. وفوكساس ألغى محاضرته البيروتية إثر حملة معارضة محلية استباقية، علماً بأنّ اللقاء كان سيتناول تصميمه الديموقراطي في تل أبيب. لكنّ فوكساس ما زال في العاصمة اللبنانية ليومين، ليشارك في اختيار المعمار اللبناني الذي يصمّم لنا صرحاً جديداً سينتصب قبالة قصر العدل في بيروت. هل طلب من أصدقائه هنا أن يشاركوا في حملة التبرّعات لبناء «دار بيريز للسلام»؟

تم تعديل المقال عن نسخته الورقية في الاربعاء ١٠ تشرين الثاني ٢٠١٠