التدقيق في ما تنفقه واشنطن، عبر «صندوق دعم الديموقراطية – NED»، على برامج تأليب الرأي العام الإيراني ضد حكومة الثورة الإسلامية، يبيّن أنّ المبالغ المعلَنة ليست كبيرة، ولا تُقارَن بالمعلَن عنه في دول أخرى. أكثر من سبب يدفع الأميركيين إلى تقليص الأرقام المعلَنة لتمويلهم برامج التأثير الناعم في الساحة الإيرانية، لعل أهمّها القوانين والإجراءات الإيرانية التي تحظر أو تقيّد عمل المنظّمات الدولية والأميركية داخل البلاد، بالمقارنة، مثلاً، مع العراق ولبنان وفلسطين المحتلة، حيث هشاشة القوانين تشجّع المنظّمات الأجنبية على ضخّ أصول مالية أكبر لاختراق المجتمع. ومن الأسباب أيضاً، تخوّف المنظّمات من انكشاف الجهات الداخلية التي تتلقّى دعماً منها لتنفيذ برامجها، وتفضيل الاستثمار في الإعلام الموجَّه من الخارج، الذي تتولّى جهات رديفة قسماً كبيراً من مصاريفه.هناك عشرات المؤسّسات والمنظّمات مسجَّلة في الولايات المتحدة، وتتلقّى تمويلاً ورعاية رسمية وخاصة، وتعمل على التأثير في الساحة الإيرانية، غالباً في الشق الحقوقي، وضمن مساعي نشر المفاهيم الليبرالية على نطاق واسع داخل إيران. ولدى محاولة تشريح المجالات التي تستثمر فيها واشنطن للتأثير في الساحة الإيرانية عبر «صندوق دعم الديموقراطية - NED»، الذي ينشط منذ عشرات السنوات للعمل في الداخل الإيراني، يتّضح أنّ الأجندة تركّز على «حقوق الإنسان وتمكين المرأة والمساءلة والحوكمة وحق الوصول إلى المعلومات وحكم القانون وحرية تأسيس الجمعيات». وبحسب البيانات المنشورة، أنفق الصندوق على برامج إيران حوالي 4.5 ملايين دولار بين عامَي 2017 و2021 (اضغط هنا للاطلاع على البيانات)، ولم تَُذكَر فيها أسماء متلقّي التمويل (عدا مركز عبد الرحمن برومند الذي يتّخذ من واشنطن مقراً له)، للأسباب السالفة الذكر.




في نظرة متفحّصة للقطاعات التي موّل الأميركيون استهدافها عبر NED، يبرز تركيزهم على قطاعَي «المساءلة والحوكمة» و«حقوق الإنسان» بحوالي ثلثّي قيمة البرامج (انظر الرسم البياني أدناه). فمثلاً خلال عام 2021، نفّذ المعهد الديموقراطي الوطني للشؤون الدولية NDI برنامجاً تحت عنوان «تشجيع المزيد من الشفافية والمساءلة الحكومية» بقيمة 350,000 دولار لـ«تقوية قدرة النشطاء الإيرانيين على استخدام عمليات الميزانية لتعزيز قدر أكبر من المساءلة». وتنصّ أهداف المشروع المعلَنة على «دعم وإرشاد» NDI شبكات المجتمع الاغترابي الإيراني للانحراط في التدقيق بأرقام الحكومة الإيرانية حول الميزانية وكيفية توزّعها من باب الرقابة، وهو برنامج يكاد يكون عابراً للدول، وغالباً ما ينبري NDI لتنفيذه عبر شبكة من المنظّمات الدولية والمحلّية. فعلى المستوى الدولي، هناك منظمة ARTICLE 19 (نسبة إلى البند 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، وهي منظمة أميركية يدرج الصندوق من بين مموّليها، وعضو في تكتل IMPACT IRAN، وتقابلها محلياً منصّة ASL19 (ذات الاسم بالفارسية) المموّلة أميركياً (صندوق OTF) والمسجّلة في تورونتو - كندا، ولدى المنصة 8 مشاريع في إطار انخراط المواطنين الإيرانيين في مراقبة الدولة الإيرانية ومن بينها IRAN BUDGET https://iranbudget.org/.
أما في مجال «حقوق الإنسان»، فيبرز الإعلان السنوي عن تقديم منحة ثابتة لـ«مركز عبد الرحمن برومند لحقوق الإنسان في إيران»، الجهة المموَّلة الوحيدة التي تُذكر بالاسم. المركز سُمّي على اسم المعارض الإيراني عبد الرحمن برومند، رفيق شاهبور بختيار، الذي لجأ إلى باريس مباشرة بعد انتصار الثورة في إيران عام 1979. تأسّس المركز عام 2002 على يدي ابنتَي برومند لادن ورويا، ويضمّ في عضوية مجلس إدارته شخصيات مثيرة للجدل كفرانسيس فوكوياما، والصحافية الصهيونية حتى النخاع آن أبلباوم، التي كتبت مقالاً شهيراً عام 2002 أعلنت فيه أنّ «الصحافيين الفلسطينيين أهداف مشروعة للقتل في الحرب الفلسطينية الإسرائيلية». ومع كل أحداث وتظاهرات معارضة في إيران، يتحوّل مركز برومند إلى مرجع للقنوات التلفزيونية والصحف الغربية، كمصدر «موثوق» للمعلومات حول ما يحصل على الأرض داخل إيران.
ومن القطاعات التي يستثمر فيها NED داخل إيران، تمويل برامج «لتقوية النقابات العمالية المستقلّة وتعزيز معرفة العمال ومناصرتهم بحقوقهم القانونية»، ضمن مساعي تأليب القطاعات العمّالية على السلطات، ودفعهم إلى تنفيذ إضرابات كلما وقعت أحداث وتظاهرات في البلاد. إضافة إلى ذلك، موّل NED تأسيس برامج لـ«تعزيز الصحافة المستقلة»، وبرامج أخرى لـ«تعزيز حكم القانون» عبر ما يسمّونه «رفع مستوى الوعي من خلال المناقشات بين المحامين الإيرانيين والجهات الفاعلة في المجتمع المدني حول سيادة القانون والحقوق الأساسية وتقوية شبكة من القانونيين الديموقراطيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في إيران». وفي هذا الصدد، يبرز برنامج يُموَّل بشكل ثابت سنوياً لإصدار «مجلة قانونية» تنشر محتوى باللغة الفارسية، «لتكون بمثابة مصدر للمحامين وطلاب الحقوق ورجال الدين الإيرانيين». ولما يُسمى «تمكين المرأة» حصّة من برامج التمويل، حيث موّل NED بشكل منتظَم بين 2017 و2021 برامج «لدعم الجهات الفاعلة في المجتمع المدني العاملة في مجال حقوق المرأة لنشر تكتيكات المناصرة الواعدة وآليات التواصل».
موّل NED تأسيس برامج لـ«تعزيز الصحافة المستقلة»، وبرامج أخرى لـ«تعزيز حكم القانون»


إذاً، تتنوّع القطاعات والمجالات التي تستهدفها برامج الصندوق الأميركي، للوصول بالمرأة والمحامي والعامل والصحافي الإيرانيين إلى مرحلة يتبنّون فيها مفاهيم الغرب، بما يجعلهم مع مرور الوقت مجنّدين لتحقيق هدف إشغال النظام الثوري الإسلامي من الداخل، واستنزافه في مواجهة مع مواطنيه. هذا فقط عرض للمعلَن من استثمار لجهة رسمية أميركية واحدة، تعمل منذ سنوات بصبر ونَفَس طويل لحفر كوّة في جدار المناعة الداخلية للنظام. وكمثال آخر على جهود مشابهة لمقاولي القطاع الخاص الأميركي، تبرز مؤسسات الملياردير الأميركي جورج سوروس، متعهّد الثورات الملوّنة وراعيها. بين عامَي 2016 و2021 موّلت «مؤسسات المجتمع المنفتح» التابعة لسوروس بأكثر من مليونَي دولار نفس القطاعات التي يموّلها NED، فذهب حوالي 56.18% من مجموع التمويل لقطاع «حقوق الإنسان»، فيما صرفت المؤسسات على ما تسمّيه «الممارسة الديموقراطية» حوالي 28.5% من مجموع التمويل (اضغط هنا للاطلاع على الكشوفات). أغلب التمويل المخصَّص لمجال «حقوق الإنسان» ذهب لـ«مركز عبد الرحمن برومند لحقوق الإنسان في إيران» مجدّداً، الذي تدلّ الأرقام على اهتمام واشنطن بقطاعَيها العام والخاص بتمويله ودعمه، ليكون من الأذرع الأساسية لبرامج استهداف المجتمع الإيراني.