«التي تقاتل فينا هي الروح»الحاج عماد مغنية

العقل ميدان حرب القرن الواحد والعشرين
الحرب الإدراكية هي وريثة الحرب النفسية، مع بعض التطوير والاختلاف، وتجمع معاً بعض عناصر الحروب السيبرانية والمعلوماتية والإلكترونية. تسعى هذه الحرب، وفق ورقة صادرة عن حلف الأطلسي وجامعة جون هوبكنز عام 2020، إلى جعل الخصم يدمّر نفسه من الداخل. فيما يعرّفها الباحثون بأنها تسليح الرأي العام من قبل جهة خارجية، وجعله غير قادر على مقاومة أهداف الجهة المعتدية أو ردعها.
يسعى هذا النوع من الحروب إلى تحقيق أحد هدفين: زعزعة الاستقرار والتأثير. يتحقق ذلك بتوظيف تكتيكات تشير إليها ورقة الأطلسي، منها زيادة الاستقطاب عبر تأجيج الصراعات الداخلية الكامنة، وزرع أفكار دخيلة ذات طبيعة خلافية تزيد من الاستقطاب الشعبي، خصوصاً إذا ما عارضت هذه الأفكار المعتقدات والمقدسات العامة. إلى ذلك، يتم اللجوء إلى إحياء التحركات التي ترفع شعارات فئوية أو مطلبية. وإلى تكتيك نزع الشرعية عن الأنظمة والقيادات، وعزل الأفراد والمجموعات، كما في الاغتيال السياسي، وتعطيل أنشطة اقتصادية حيوية وتعطيل البنية التحتية عبر العقوبات بشكل خاص.

strategicassessment.inss.org



أدى تطور وسائل التواصل والخوارزميات المؤتمتة والذكاء الاصطناعي ونمط الحياة الحديث الذي تقوده الأجهزة الذكية وما تجمعه من داتا، إلى ولادة الحرب الإدراكية (في أدبيات هذه الحرب، تشديد على ضرورة وتشجيع العامة على امتلاك الهواتف الذكية كإحدى الوسائل الأساسية للحرب). وعلى عكس الحرب النفسية، تعتمد الحرب الإدراكية على المصادر الرمادية بشكل مفرط، ويساعد في ذلك تكاثر المنصات في الفضاء الافتراضي تحت أقنعة أهلية ومدنية. وفيما ترافق الحرب النفسية عمليات أو حرب عسكرية، تترافق الحرب الإدراكية مع عمليات تخريب وعنف بالوكالة، إذ تقترن بعمل التنظيمات شبه العسكرية Para-military. كذلك، تتمايز الحرب الإدراكية عن الحربين النفسية والمعلوماتية بأنها لا تكتفي ببث المدخلات/ المعلومات للتأثير في أفكار المرء، بل تسعى إلى تعديل كيفية التفكير والتصرف. وعبر هزّ المعتقدات الجامعة والمؤسِّسة للهوية الوطنية، تسعى إلى زعزعة إرادة القتال والدفاع عن هذه المعتقدات، وبالتالي الدفاع عن الوطن في مواجهة عدوان ما. في حالات أخرى، يعمل هذا التشكيك على توجيه إرادة القتال هذه نحو الداخل من دون إدراك من الموجَّهين بأنهم يخونون وطنهم أو أنهم يدارون من الخارج.
تعمل الحرب الإدراكية تحت الأرض بصمت في انتظار اللحظة المناسبة. وهي تبدأ، أول الأمر، في مجال العلوم الاجتماعية، وبالاستعانة بوسائل التواصل والأجهزة الذكية، إضافة إلى الأبحاث الميدانية حيث أمكن. وعندما يتعلق الأمر بالدول التي لا تستضيف منظمات غربية على أراضيها، تصبح قضايا حرية الإنترنت أولوية غربية استراتيجية، بهدف جمع معلومات عن الخصم والبحث عن القضايا الإشكالية والحساسة وتمييز المجموعات المكونة داخل المجتمع وما تملكه من تاريخ يمكن نبشه وتوظيفه. لاحقاً، تعمل 3 عناصر بتنسيق مركزي على زرع ونشر سرديات مختارة في قضايا محددة على مدى فترة طويلة من الزمن. هذه العناصر هي الإعلام والمنظمات غير الحكومية والقيادات (اجتماعية، ثقافية، سياسية و«رواد هوية» وخبراء ومؤثرون بحساباتهم الوهمية الداعمة). المهم هنا أن تبدو السردية أصيلة وثابتة في النقاش العام، والأهم أن تكتسب القيادات مصداقية لضمان ما يسمى «دفق الإعلام في خطوتين». بعد المرحلة الأولى التي يمكن تشبيهها بكومة قش، يتم انتظار شرارة اللحظة المناسبة لإشعالها من خلال حدث دراماتيكي، تعمل الخوارزميات على وضعه في واجهة وسائل التواصل، ويساعد الإعلام في دعم هذا الحدث عبر ضخ متواصل للأخبار الكاذبة لإغراق المتلقي ووضعه في حالة استنزاف إدراكي يعطل قدرته على التفكير النقدي.
إلى ذلك، تحتاج الحرب الإدراكية في حالات كثيرة إلى تعطيل الاقتصاد بالعقوبات أو إشعال الحرائق أو تدمير البنى التحتية واختراقها، خصوصاً في مجال الإنترنت، إضافة إلى الهجمات الإرهابية وعمليات التخريب المدروسة بعناية لإثارة الفوضى والنعرات.

تظاهرات 2022، آخر الهجمات وليست آخرها
في كتاب بعنوان «الحرب بأساليب أخرى»، أصدرته مؤسسة «راند» عام 2008، يضع الباحث الحرب الإدراكية في مقدمة استراتيجيات مكافحة ما يعتبره الأميركيون تمرداً. إذ إن الكاتب لا يعتبرها مجرد خيار بديل للمواجهة العسكرية أو إجراء احترازي منها، بل يرى أنها (القوة الإدراكية - الروحية) نقطة القوة لحركات المقاومة التي تمنحها دفعاً عندما تتعرّض لعدوان عسكري غاشم. وفي المقابل يرى أنها هي نفسها نقطة ضعف لدى الأميركي نظراً لضعف المحتوى أو السردية التي يمتلكها الغرب (كما يظهر في الرسم البياني)، ما يحتّم عليه الاستثمار المفرط في التقنيات والمنصات والمنظمات التي لا تنتهي ليميل أرض الكفة لمصلحته.
تحتاج الحرب الإدراكية في حالات كثيرة إلى تعطيل الاقتصاد بالعقوبات أو إشعال الحرائق أو تدمير البنى التحتية واختراقها


وفي هذا الخصوص من الطريف أن نقرأ كيف لا يتقبل الغرب من خصومه المعاملة بالمثل ولا يتقبّل مجرد فتح منصات للحديث عن سردياته باللغة الإنكليزية (فضائيات، تطبيقات، ناشطين). وبحسب توصيات مراكز التفكير (منها تقرير الأطلسي أعلاه وبحث آخر بعنوان جهود إيران في التأثير الرقمي للمجلس الأطلسي) حول ما يعدّونه حرباً إدراكية معادية (صينية، روسية وإيرانية)، تجمع التوصيات الغربية على الإغلاق. والمنع الشامل الذي ووجهت به المنصات الروسية كان موضع نقاش لدى هذه المراكز قبل الحرب الأوكرانية بسنوات.
الحرب الإدراكية بين إيران والغرب برئاسته الأميركية متشعبة وتأخذ شكل جولات وصولات. الأميركيون يعرفون أن محتوى سرديتهم ضعيف وفي كل جولة يستهلك ويستنزف دراميته. أما بالنسبة لإيران فيتأكد لدى قاعدتها الشعبية المعبأة صوابية موقفها من «الاستكبار» الغربي، وبالتالي فإن محتوى سرديتها والقيم المستندة إليها يتجذر أكثر. يحاول الأميركيون معالجة هذا الضعف بخلق فضاء عام افتراضي يستطيع اختراق واستلاب أكبر عدد ممكن من الشباب الإيراني، وهذه المحاولة بحد ذاتها تجسد الجدلية القائمة بين نظريتين في الإعلام: الحتمية التقنية (من يمتلك التكنولوجيا سينتصر حتماً) مقابل الحتمية القيمية (القيم تستطيع التفوق على التكنولوجيا). هذا بالطبع لا يعني أن إيران تستند فقط إلى منظومتها القيمية الثورية لمكافحة التدخلات التآمرية الغربية لزعزعة الاستقرار، بل تظهر المشاريع والدراسات الغربية للمنظمات المعنية باختراق المجال الافتراضي الإيراني أن الجمهورية ندّ صعب، سريع التطور والتعلم، مما يجعل مسلّمة التفوق التقني الغربي في خطر بعد كل جولة، على رغم الفرق الهائل في القدرات التمويلية بين الطرفين.