لا شك في أن ثروة لبنان الثقافية تؤهّله لأن يكون في طليعة الدول التي تستقبل سنوياً ملايين السياح، لو كان هناك استغلال جدّي للمرافق الأثرية، إذ إنه «مطمور» بالآثار من شماله إلى جنوبه. غير أن خليطاً من ضعف التمويل، وقلة الثقافة الشعبية والقانونية، إضافة إلى تفشّي المحسوبيات وسوء الإدارة، وهدر حقوق العمّال في الحفريات، وتضارب المصالح السياسية الاقتصادية والدبلوماسية، وتراكم سنوات من المشكلات.. كلّ ذلك التفّ حول رقبة الممتلكات الثقافية ووأدها في أعمال الحفر. وعلى مدى سنوات، نشطت حملات عدة للإضاءة على الخلل في عمليات الحفر والتنقيب بعدما خسر اللبنانيون قطعاً أثرية مهمة جرّاء طمرها عشوائياً. فلماذا كانت تُطمر الأثريات بشكل مفاجئ؟ وأين موطن الضعف القانوني في هذا الملف؟ وما هو واقع الحفريات في لبنان وحقوق العمّال فيها؟

(هيثم الموسوي)

يشترط قانون الآثار القديمة الصادر بموجب القرار 166/ ل.ر وتعديلاته، أن يكون المشرف على الحفرية الأثرية عالماً، لذلك من المتعارف أن يكون المشرف إما أثرياً من المديرية العامة للآثار أو أستاذاً جامعياً خبيراً في هذا المجال. أما الحفريات بطبيعتها فتنقسم إلى قسمين، الأول: التنقيبات التي تبقى مدة طويلة، والثاني: ما يُسمّى «حفريات الإنقاذ». وتظهر هذه الأخيرة بشكل اضطراري عندما يُشك في وجود أثريات في عقار معيّن، وتعرّض صاحب العقار لخسارته في حال ثبت وجود قطع غير قابلة للنقل فيه.
تطرّق قانون الآثار القديمة إلى الحفريات في 17 مادة من الباب الثالث، فأوكل مهمة الإشراف على الأعمال الحفرية للمديرية العامة للآثار التي تُعنى بمهام البحث والتنقيب والكشف عن الآثار، كما الحراسة والصيانة وكل أعمال التنقيب والبرمجة والتدقيق، إضافة إلى إقامة علاقات التنسيق والتعاون وتبادل الخبرات مع الجهات المساعدة العربية والدولية لتحقيق هذه المهام. فتنصّ المادة (66) على أنه «في أثناء الأشغال وعند الانتهاء منها يجب على صاحب الامتياز أن يتّخذ جميع التدابير اللازمة لحفظ الآثار المكتشفة ووضعها في مأمن من السرقة أو من تقلبات الطقس». هكذا يعوّل القانون على جدارة أهل الاختصاص في التعامل مع الحفريات وحمايتها، لكن من دون تفصيل شروط هذه الحمايات، على عكس بعض القوانين في العالم التي ذهبت إلى بلورتها عبر تضمين شرح مفصّل لإجراءات الحفظ الوقائي للآثار في أعمال الحفريات، كما فعلت فرنسا في الكتاب الخامس من قانون التراث مثلاً.

(هيثم الموسوي)


المرسوم الرقم 3057
يعتقد البعض من أهل الاختصاص أن المواد المتعلقة بالحفريات في لبنان كانت فضفاضة، ثم جاءت المراسيم وزادت الوضع سوءاً في حقبات مختلفة، ما نتج عنه «تشريعات للمخالفات» و«حماية قانونية لمالكي العقار». ففي حين ينظم المرسوم الرقم 3057 تاريخ: 12/03/2016 «التدخلات الميدانية الأثرية التي تقوم بها المديرية العامة للآثار في مجال الحفريات الوقائية والإنقاذية»، يُذكر فيه أن تمويل الحفرية يمكن أن يأتي من صاحب العقار الذي يصفه القانونيون بأنه «المستفيد الأكبر من التخلص من الأثريات التي تظهر في العقار». وتعُدّ المحامية فداء عبد الفتاح، رئيسة جمعية «ألف باء القانون»، أن مثل هذا «الخلل القانوني في النصوص، ولا سيّما في ظل الأوضاع الاقتصادية التي تمرّ بها المديرية العامة للآثار، قد كلّف الممتلكات الثقافية الكثير، فجعل ربّ العمل في الحفريات هو نفسه المستفيد من نقلها وتدميرها». وتشرح عبد الفتاح ما يحدث عادة: «عند تسليم الحفرية إلى صاحب العقار، يقع على عاتقه إحضار الفنّيين وتأمين جميع الأمور اللوجستية. في المقابل، يكون هناك تعهّد ضمني بين المديرية العامة للآثار وصاحب العقار، كي تقنعه بالتمويل، كَون الحفريات تستلزم أموالاً ضخمة، بأن المديرية ستنقل جميع الأثريات التي تظهر في العقار حتى لا تعرّض صاحبه إلى خسارته، لأنه في حال ظهور أثريات غير قابلة للنقل في العقار، فإن وزارة الثقافة ستضطر إلى استملاكه بحكم القانون» (راجع «القوس»، 6 أيار 2023، الحلقة الأولى: قانون حماية الآثار.. «أثري»)، وهنا، بحسب عبد الفتاح، «الكارثة» لأن هناك قطعاً غير قابلة للنقل «كما حدث في قضية المرفأ الفينيقي والباشورة وغيرهما من الحوادث التي ضجّ بها الرأي العام لفترة» (راجع «الأخبار»، 21 تشرين الأول 2011، منشار «فينوس» يهدّد مرفأ بيروت الفينيقي). المرسوم نفسه الذي لزّم الحفرية إلى صاحب العقار، طرح عدة إشكاليات قانونية وأخلاقية، بحسب عبد الفتاح، فهل يصلح أن يكون ربّ العمل، هو نفسه المالك العقاري الذي له مصلحة بتوقّف العمل في أسرع ما يمكن؟



تقصير وجماعات ضغط
عام 2019، رفع أستاذ الفنون والآثار الفينيقية في الجامعة اللبنانية المتقاعد ناجي كرم دعوى ضد المدير العام السابق لمديرية الآثار. وفي تفاصيل الدعوى أن كرم كان قد حصل على إذن من المديرية العامة للآثار للكشف على موقع أثري بعد أن تبيّن في إحدى الحفريات وجود قطع مهمة، لكنه سرعان ما اكتشف أن العاملين قاموا بتدمير القطع وجرفها «خوفاً من أن تعطّل المشاريع العقارية».
وفي مقابلة أجرتها «القوس» مع كرم، شرح أن واقع الآثار في لبنان يحكمه الفساد السياسي في جميع المناطق، وبالتالي فإن «فتح الملف بجرأة» سيطاول جميع الفرق السياسية التي لها مصالح استثمارية. وأضاف: «لا يمكن أن نتّهم المديرية العامة للآثار بالتقصير الكامل، ففي بعض الأحيان حاولت المديرية والمشرفون عليها أداء واجباتهم، لكنهم لم يمتلكوا الأدوات اللازمة للحماية بسب قوة نفوذ جماعات الضغط». لافتاً إلى أن «ضعف التمويل حاجز لا يمكن تسخيفه، لكن يوجد حل بديل، وقد فعلته المديرية العامة للآثار سابقاً، إذ طمرت بشكل علمي قطع فسيفساء كانت قد وجدتها في جبيل، بعد أن شخّصت عدم قدرتها على تحمّل تكلفة التنقيب العالية. فأُضيفت المنطقة إلى الخريطة كمنطقة فيها أثريات وانتهى الأمر، الطمر العلمي يمكن أن يكون حلاً أمام ضعف التمويل».



ماذا عن حقوق العاملين في الحفريات؟
صدر قرار عن مجلس العمل التحكيمي عام 2022، بالدعوى القضائية التي رفعها إدريس مليتي عام 2014، بحق إحدى الشركات المالكة للعقار الذي عمل فيه مشرفاً إدارياً على الحفرية، وبحق المديرية العامة للآثار والمعهد الفرنسي للشرق الأدنى، بعد حادثة «الطرد التعسّفي» التي واجهها مع رفاقه. وجاء في تفاصيل الدعوى أن العمّال أُوقفوا عن متابعة الأعمال «بشكل مفاجئ، ورُفض دفع التعويض لهم»، فجاءت الدعوى لتسأل عن ربّ العمل المسؤول عن دفع التعويض، بعد أن تبرّأت الجهات الثلاث من العمّال بحسب مليتي، إذ قالت الشركة المالكة للعقار إنها «تكتفي بالدفع ولا علاقة لها بالعمّال ولا بالتواصل معهم».
«الطمر العلمي» يمكن أن يكون حلاً أمام ضعف التمويل كما حدث لدى اكتشاف قطع فسيفساء في مدينة جبيل

أمّا ردّ المديرية العامة فكان أنها لزّمت المعهد الفرنسي الإشراف على العمل «كونه الجهة العلمية الوحيدة التي تتعامل معها». ونفى المعهد الفرنسي علاقته بالإشراف، مشيراً إلى أن دوره كان استشارياً فقط.
فتحت هذه الحادثة عدة إشكاليات قانونية تُبرز «الضبابية والعشوائية اللتين تتم بهما التلزيمات». وتشير عبد الفتاح، التي تطوّعت للدفاع في القضية، إلى أنها «لم تكن مجرد قضية حقوق بسيطة»، لكنها تشي بواقع العمّال الصعب، فلا توجد «عقود عمل واضحة» تضمن حقوق المياومين الذين يعملون بكدّ وكذلك حقوق المشرفين على الأعمال. كما جاء في تفاصيل الدعوى أن العمّال «كانوا قد وقّعوا عقد عمل جماعي مدته سنة قابلة للتجديد». لكنّ أياً من العمّال «لم يمتلك نسخة عن العقد».
يعبّر مليتي لـ«القوس» عن عدم رضاه الكامل على القرار الذي صدر بعد 8 سنوات من الانتظار، والذي جاء بتلزيم الشركة المالكة للعقار بدفع التعويضات لكونها ربّ العمل. ويقول: «صحيح أن القضاء اللبناني أنصف العمّال إلى حد ما بتأكيد وجود طرد تعسّفي، لكنّ الحادثة أكبر من قضية عمّال بسيطة، وتحمل عدة ملابسات لم يُحاسب الجميع فيها». لأنه «من المستحيل»، برأيه، أن يسجل القضاء اللبناني قراراً بحق إحدى المؤسسات اللبنانية أو الفرنسية نظراً إلى العلاقات التي تربط البلدين، وخصوصاً «أن المعهد الفرنسي تابع لوزارة الخارجية الفرنسية، وجزءاً كبيراً من العاملين فيه يحملون صفات دبلوماسية، لذلك فإن تحميل الشركة المالكة للعقار المسؤولية كاملة كان القرار الأسهل».



اللبنانيون مستثنون من المشاركة؟
حُرم أساتذة الجامعة اللبنانية منذ وقت طويل من الإشراف على الحفريات في لبنان، كما حُرم طلابهم من التدريب العملي، لعدم قدرة الجامعة اللبنانية على تمويل الحفريات، ولضعف العلاقات بينها وبين المديرية العامة للآثار التي تلجأ إلى ترشيح اختصاصيين أثريين من جهات أجنبية أو من جهتها. يؤكد كرم أن الجامعة اللبنانية «تمتلك جميع المؤهلات العلمية للإشراف على الحفريات، إضافة إلى التنوّع اللازم في الخبرات، واختصاصيين يمكن أن يكشفوا عن الأثريات التابعة لمختلف الحقبات الزمنية». وبالتالي من المفترض أن تُعطى الأولوية لهم.
لا توجد عقود عمل واضحة تضمن حقوق المشرفين والمياومين الذين يعملون بكدّ في أعمال الحفريات الأثرية


إقصاء اللبناني لا يقتصر على الأكاديميين، إذ يشير مليتي إلى أن «العمّال اللبنانيين محرومون كذلك من المشاركة بأعمال الحفر». فيتوجّه أغلب أرباب العمل في الحفريات إلى توظيف جنسيات غير لبنانية بحجة أن «اللبناني لا يعمل في مثل هذه الأعمال الشاقة». بينما الحقيقة، بحسب مليتي، هي أنهم «يتهربون من توقيع عقود عمل واضحة، تشمل دفع التعويضات إذا ما توقّف العمل بشكل مفاجئ، وإعطاء العمّال حقوقهم المادية، كما تغطية ضماناتهم الاجتماعية» لأن العمل مع اللبناني يستلزم عناية اجتماعية «ليسوا بصدد تأمينها».



ضعف الثقافة
في الخيال الشعبي «الآثار تعني الذهب» تقول الوسيطة في مجال الآثار نيللي عبود لـ«القوس». وتشرح أن العمل على تثقيف الناس حول قضية الآثار لا يزال ضعيفاً في لبنان، لذلك قد نشهد حوادثَ ومحاولات سرقة في المناطق اللبنانية وفي مواقع الحفريات بشكل مستمر. ترى عبود أن من المهم أن تكون هناك عمليات تنقيب مفتوحة أمام أعين الناس ضمن ضوابط أمنية طبعاً، لكنّ الترحيب بأهالي المنطقة التي تُجرى فيها الحفرية أمر مهم كي يشعر اللبنانيون أن الآثار «ملكهم». كما أن الشرح عن عملية التنقيب وعن الاكتشافات ودورها في توثيق الذاكرة الجماعية وحفظ التراث الوطني لا يقل أهمية عن ذلك. في المقابل، تضيف عبود: «يمكن لإقصاء المواطنين عن أماكن الحفريات، أن يزيد من الجفاء بين اللبناني والآثار، ناهيك عن أن اللبناني يدفع بدل دخول للأماكن السياحية مثل الأجنبي، وبالتالي فإن هذه الطريقة، ستُبقي مفهوم الحفاظ على التراث ضعيفاً». بدورها تؤكد عبد الفتاح أن العديد من القانونيين، محامين وقضاة، يجهلون تفاصيل الملف القانونية، لقلة المحاسبات، والخوف منها أحياناً، وعدم بذل جهد شخصي في الموضوع، وأكبر دليل على ذلك هو «عدم تخصيص محكمة خاصة للآثار. حاولنا لثماني سنوات، في قضية متعلقة بالآثار، أن نسأل سؤالاً واحداً بسيطاً: من هو ربّ العمل؟»


توقّف مفاجئ
«غالباً ما يتوقّف العمل بشكل مفاجئ في أعمال الحفر بسبب غياب التقنيات اللازمة في مراحل الكشف الأولى» بحسب ما يقول إدريس مليتي، أحد الناشطين في مجال حماية الآثار، والذي سبق أن عمل في الإشراف على الحفريات، إذ لا توجد في لبنان تقنيات حديثة تساعد على تقدير الوقت والجهد والأموال التي يمكن أن تستلزمها الحفرية. ويضيف مليتي: «طالما أن تمويل الحفرية يأتي من صاحب العقار نفسه، تُمرّر في بعض الأحيان اتفاقيات توقف العمل، ويُجرف العقار وما فيه لاستكمال المشاريع العقارية».


تتولّى مديرية الحفريات الأثرية المهام التالية:
1- البحث والتنقيب والكشف عن الآثار.
2- وضع الكشوفات بها بغية إدراجها على لائحة الجرد العام أو تسجيلها على إحدى لائحتَي الممتلكات الثقافية المعترف بها أو المصنّفة، وتسليمها إلى المديرية المختصة.
3- الاهتمام بالحفريات الأثرية من ناحية إدارتها، وحراستها، وتأهيلها، وصيانتها، والحفاظ عليها، كما تنظيم أعمال البحث والتنقيب عن الآثار وبرمجتها على الصعيدين العلمي والعملي، والتدقيق في طلبات التراخيص المقدّمة من الجهات المحلية والخارجية التي ترغب بالقيام بها واقتراح منح التراخيص أو حجبها، ومراقبة الأعمال الميدانية للبحث والتنقيب الأثريَّيْن والتقصّيات براً وبحراً.
4- إجراء الأبحاث بشأن الحفريات الأثرية ودراستها من جميع النواحي العلمية المعنية، بالإضافة إلى إعداد الدراسات والبحوث التي تُعنى بها والتحضير لإصدارها بالطرق والوسائل المناسبة.
5- المشاركة في وضع كلّ المخططات والدراسات والأعمال العائدة لتنفيذ المشاريع الإنشائية الكبرى، والمرافق العامة، والبنى التحتية، وأعمال الاستصلاح الزراعي، واستثمار الكسّارات، وما شابه ذلك من أعمال، وإبداء الرأي بها ومراقبة تنفيذها، في سبيل الحفاظ على الآثار.
6- الكشف على المواقع المنوي إقامة أبنية عليها في المناطق والأحياء المصنّفة أثرية أو تراثية أو تاريخية وإبداء الرأي بطلبات رخص البناء على هذه المواقع.
7- وضع اليد على الحفريات من أي نوع كانت التي يتبيّن وجود آثار فيها لإجراء أعمال البحث والتنقيب عن الآثار الخاصة بها واتخاذ التدابير القانونية والإدارية المناسبة.
8– إقامة علاقات التنسيق والتعاون وتبادل الخبرات مع الإدارات والمؤسسات العامة، والمنظمات والمؤسسات والجامعات والمعاهد العلمية، المحلية منها والعربية والدولية، والمؤسسات الخاصة والجمعيات والهيئات الأهلية، والأفراد في سبيل تحقيق هذه المهام. (قانون «تنظيم وزارة الثقافة»، الفصل الثاني، المادة 16).