لا يغيب بند «الإنماء المتوازن» عن التصريحات والخطابات الانتخابية والبيانات الوزارية، لكنه غالباً ما يبقى حبراً على ورق. بعيداً عن المشاريع التنموية والخدماتية، فإنّ السؤال عن انسحاب الإنماء المتوازن «قضائيّاً» على القرى والمناطق البعيدة عن المدينة، فقد قيمته لدى البعض، وخاصة سكّان الأرياف المهمّشين من الدولة منذ ما قبل الأزمة. تطول لائحة معاناة هذه المناطق، لكن يبقى الوضع الأمني فيها في أعلى سلّم الأولويات. فمع تزايد نسب الجرائم، من قتل وخطف وسرقة، وترافقها مع شلل السلطة القضائية، تتضاعف المخاوف، ويجد المواطن نفسه أمام مسؤولية حفظ أمنه وأمانه، لذلك بات اللجوء إلى «الأمن الذاتي» يأخذ منحى خطيراً. فهل القضاء «مع» أم «على» الإنماء المتوازن؟
اقتحمت عصابة مسلّحة، مساء 12 نيسان الفائت، منزل المواطن محمود شور بين بلدتَي جنّاتا وطورا شرقيّ مدينة صور، وسرقت 30 ألف دولار أميركي و250 مليون ليرة وذهباً بقيمة 50 ألف دولار. أثارت الحادثة الرعب في نفوس المواطنين، وخاصة سكان المناطق الريفية النائية، وأعادت الحديث عن خطورة الوضع الذي نعيشه، وحول جدوى وفعالية إجراءات الحماية الذاتية كوضع نظام كاميرات مراقبة داخل المنازل.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

محمد، أحد سكان المنطقة، يؤكد لـ«القوس» أن «أغلب السكّان، وخاصة الذين تقع بيوتهم في مناطق نائية، يعمدون إلى تركيب كاميرات مراقبة. إلا أن ذلك لم يحدّ من جرائم السرقة، فلا يزال اللصوص يقتحمون المنازل تحت أعين هذه الكاميرات». وفي هذا السياق، يقول صاحب محل لبيع كاميرات المراقبة في مدينة النبطية: «سابقاً، كان معظم زبائني من أصحاب المؤسسات التجارية والمالية. أمّا اليوم، فقد دفع الوضع الأمني المتردّي المواطنين لاتخاذ مختلف إجراءات الحماية الفردية وأخذ بعض الاحتياطات حفاظاً على سلامتهم، ومنها أنظمة المراقبة المنزلية».
كذلك أقدم كثيرون على شراء أسلحة للحماية من أي خطر قد يواجهونه. وهذا «الخطر» قد يزداد ليلاً في الطرقات التي تغيب عنها كل أشكال الإنارة، ما يشكّل غطاءً لمرتكبي الجرائم. وهذا ما حدث قبل شهر، عندما تعرض شاب وفتاة على طريق صيدا - جزين في كفرفالوس، للطعن والسرقة من قِبل شابَّين كانا يستقلان دراجة نارية. تقول هلا التي تعمل ممرضة في أحد مستشفيات الجنوب: «ما كنت أعمل حساب قبل للطريق، كان كتير أمان. بس هلق الوضع صار كتير بيخوّف. كل يوم منسمع عن سرقات وجرايم قتل، وبيجينا حالات بنص الليل نتيجة هالشي».

البلديات شريك أم بديل؟
رغم محدودية الصلاحيات والإمكانات، إلا أن البلديات، وفي ظل الأوضاع الأمنية المتوترة، لعبت دوراً مهماً ضمن نطاقها في الحفاظ على الأمن، سواء من خلال التنسيق والتواصل بين أبناء البلدة، أو من خلال التنسيق مع القوى الأمنية وحلّ بعض المشكلات، أو من خلال الشرطة البلدية التي تمثّل «ضابطة عدلية» في حدود الصلاحيات الممنوحة لها. إذ تُساند الشرطة البلدية القوى الأمنية في أعمال المراقبة والتوقيفات، كما تقوم بدوريات ليلية منعاً للسرقات والمخالفات.
من جهة ثانية، عملت بعض البلديات على تنظيم إقامة النازحين السوريين ضمن نطاقها من خلال تسجيل أسماء المقيمين وأماكن عملهم، ما ساعد في الحدّ من الفوضى التي ترافقت مع النزوح السوري، كما خفّف من النزاعات والخلافات التي كانت تقع ضمن بعض المناطق بين أبناء البلدة والنازحين. وفي هذا السياق، يشير رئيس بلدية النبطية، أحمد كحيل، إلى أن «البلديات لا يمكن أن تحلّ مكان القضاء مهما قامت بإجراءات، وليس من صلاحياتها تطبيق البدائل. فالقانون الذي يحكم عمل البلديات واضح ومحدّد لجهة الصلاحيات والحدود التي يمكن التحرك ضمنها ووفقها». ويضيف: «الظروف المعيشية والاقتصادية، والوضع العام للدولة التي تنهار شيئاً فشيئاً هي العامل السلبي الذي حدّ من سلطة القانون وقدرته، وأثّر على رعاية الدولة لمواطنيها، إذ لم تعُد تؤمّن لهم مقوّمات الحياة الأساسية اليومية. كل ذلك زاد من حجم المخالفات، والتعاطي مع الدولة وكل من يمثّل الدولة على أنّه خصم وعدوّ». كما يؤكد أن «كل تلك المشاكل هي نتيجة طبيعية للضائقة المعيشية والاقتصادية، ما يزيد من حدّة التوتر الأُسري والاجتماعي».
خطر «الأمن الذاتي» وسياسة الإفلات من العقاب قد ينسحبان على بقية المناطق فتتحوّل إلى كانتونات مغلقة تزيد من حدّة الخلافات الطائفية بين اللبنانيين


من جهة أخرى، يشير كحيل إلى «أن القضاء، الذي يعمل بشكل نسبي، يحاول أن يغطي المخالفات ويحفظ الحقوق. لكن إذا بقيَ الوضع العام على حاله، فإن الهوّة ستكبر وستكسر هيبة القانون أكثر». وعن الوضع الأمني في النبطية، يشرح كحيل «التعاون القائم بين البلدية والقوى الأمنية، والعلاقة الطيّبة مع المواطنين والاحترام المتبادل ودور الأحزاب الإيجابي وحضورهم الاجتماعي والميداني القائم بين الناس، ودور الجمعيات والفعاليات في الوساطات بين الأفراد والجماعات، كل ذلك أدّى ويؤدّي إلى التخفيف من حدّة الخلافات والقدرة على إيجاد الحلول والبدائل».

الأمن الذاتي.. خطر
جماعات مسلّحة، وخطف، وقتل، وقذائف، سلاح متفلّت وغياب لسلطة الدولة. هذا ليس مشهداً من فيلم رعب وإنما عملية ثأرية بين بعض العشائر. صحيح أن هذه الظاهرة ليست جديدة في لبنان، لكنها أخذت منحى أكثر خطورة في ظل الأوضاع الأمنية المتردّية، وفي ظل اختراق هذه العشائر من قِبل بعض الأحزاب، ما حوّل مفهوم «الأخذ بالثأر» إلى مفهوم سياسي تتداخل فيه المصالح الحزبية. وبمعزل عن هذه الأنماط والسلوكيات، فإنّ سكان هذه المناطق يطالبون بشكل مستمر بتدخل الدولة وببسط سلطتها خوفاً من تفلّت الوضع. وكان الشابّان علي ومحسن عباس العمار قد قُتلا قبل عدة أيام في بلدة مشغرة البقاعية نتيجة «جريمة ثأرية» بحسب ما أعلن ذوو الضحايا. أعادت هذه الجريمة إلى الواجهة الحديث عن سياسة الإفلات من العقاب بدلاً من المحاسبة، وعن مخاطر «الأمن الذاتي» الذي قد ينسحب على بقية المناطق فتتحوّل إلى كانتونات مغلقة تزيد من حدّة الخلافات الطائفية بين اللبنانيين.
في المقابل، لم تكن تداعيات غياب القضاء بهذا السوء في بلدات أخرى، حيث وجد وجهاء بعض العائلات المرموقة فرصة للتآزر والتكاتف واللجوء إلى حلّ الخلافات والنزاعات بين أبناء البلدة بالطرق السلمية.

الوضع الأمني جيّد، ولكن!
شهدت الأرقام والمؤشرات الأمنية تحسّناً ملحوظاً خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، مقارنة بالفترة ذاتها من العام 2022، غير أنّ مقارنة تلك المؤشرات بين شهرَي شباط وآذار من هذا العام أظهرت ارتفاعاً في نسب الجرائم.