لم يكن مفاجئاً، التعليق «السلبي» لوزارة الخارجية الألمانية على قرار الجامعة العربية إعادة مقعد سوريا في الجامعة إلى دمشق. في السنوات الأخيرة، يكفي تتبّع الموقفين الأميركي والبريطاني، لتبيّن أُسس السياسة الخارجية الألمانية تجاه سوريا، وأيضاً تجاه غالبية الشؤون الدولية، بما فيها الانخراط الواسع في الحرب الأوكرانية.فرغم كلّ التحوّلات الإقليمية والدولية تجاه دمشق، تتمسّك حكومة المستشار الألماني يولاف شولتز بسياسات أكثر تشدّداً من حكومات إنجيلا ميركل في العداء للدولة السورية. ويغطّي الألمان موقفهم هذا بدعم رفض إعادة العلاقات الديبلوماسية الأوروبية والألمانية مع دمشق بأسباب سياسية و«أخلاقية»، يبدو بعضها مثيراً للسخريّة.
كما يترافق التشدّد الألماني مع تحوّل في سياسات برلين تجاه إيران والملف النووي الإيراني، على خلفيات دفاعية وأمنية تُقلق ألمانيا، لا سيّما التطوّر الصاروخي الإيراني. لكن هذه الخلفيات في الواقع لا تنطبق على الحسابات السورية.
يحاجج الألمان بالعلاقة المتينة التي باتت تربط موسكو بدمشق، كأحد أبرز الأسباب التي تدفعهم إلى معاداتها، من دون النظر إلى أصل الانقلاب الغربي تجاه سوريا. إذ إن سياسة الرئيس بشار الأسد، في السنوات الأولى من حكمه، اتسمت بالاتجاه غرباً، وترجم ذلك بزيارات عدة إلى أوروبا، لا سيما ألمانيا وفرنسا. خلال تلك المرحلة، احتفل الألمان بتصاعد دورهم الديبلوماسي على خلفية صفقة تبادل جرت بين المقاومة اللبنانية والعدو الإسرائيلي، قبل أن تتبرّع برلين للقيام بأدوارٍ أمنية وقضائية معادية تماماً لحكم الأسد، عشية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، في انسجام تام مع رغبات الرئيس الفرنسي جاك شيراك. ذلك التحوّل، أفقد العاصمة الألمانية دوراً خارجياً مهماً كان في طور التبلور، كوسيطٍ محتمل بين إسرائيل وأعدائها في المنطقة، أو بين القوى المتصارعة في إقليمٍ ملتهب.
الأسباب السياسية الأخرى، تبدو أقلّ أهميّة اليوم، لا سيّما التذرّع بغياب الحلّ السياسي في سوريا. إذ إن الحلّ السياسي، مع كمّ التدخلات الخارجية، الغربية والشرقية، لا يمكن تحميله للحكومة السورية وحدها، ولا يمكن انتظاره من دمشق وحدها، فيما تواصل ألمانيا المشاركة في لعبة تأجيج الصراع، عبر استمرارها في تقديم الدعم للجماعات الانفصالية الكردية وبعض جماعات المعارضة التي ترتبط بشكلٍ أو بآخر بجماعات «القاعدة»، ولا تدعم صراحةً وحدة الأراضي السورية.
أما في ما يتعلق بالأسباب «الأخلاقية»، فتلك حكاية أخرى. إذ يحاجج الألمان بأن «النظام السوري» نظام استبدادي ارتكب جرائم ضدّ الإنسانية، واستخدم أسلحة كيماوية، وأن الجمهور الألماني معبّأون أخلاقياً ضد الحكومة في دمشق منذ سنوات طويلة.
طبعاً، لا تفسر الحكومة الألمانية لشعبها الأسباب «الأخلاقية» التي دفعتها إلى رفع الحظر التسليحي عن السعودية والإمارات، وتوقيع اتفاقيات نفطية مع الدوحة وأبو ظبي، على سبيل المثال. وكأن دول الخليج واحة للديموقراطية، أو أن دماء السوريين عند صانع القرار الألماني أثمن من الدماء التي سالت في اليمن. أو، ينسى الألمان، على سبيل التذكير، من هي الجهات التي زوّدت نظام الرئيس الراحل صدام حسين بالأسلحة الكيماوية.
يفقد الموقف «الأخلاقي» الألماني معناه، بمجرّد النظر إلى فلسطين، حيث يزوّد الألمان إسرائيل بالأسلحة الاستراتيجية، في وقت صوّت الكنيست على يهودية الدولة، وتواصل عصابات الاستيطان بالتكافل مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة طرد الفلسطينيين من منازلهم والاستيلاء على أراضيهم. وإذا كان الموقف الألماني تجاه إسرائيل محكوماً بالأسباب التاريخية، فإن تدفيع الفلسطينيين ثمن أخطاء ألمانيا في الزمن الغابر، ينزع أي مصداقية عن المواقف «الأخلاقية» الألمانية تجاه قضايا العالم، لا سيّما القضية السورية.
صحيح أن الحكومة الألمانية تشنّ علناً حرباً مستمرة ضد الدولة السورية، إلّا أن الدولة الألمانية العميقة ترغب في الخفاء في تعزيز العلاقة الأمنية، فقط، مع دمشق، لأسباب أمنية بحتة، وشؤون تتعلّق برغبة برلين بإعادة عدد من اللاجئين السوريين في ألمانيا إلى بلادهم. إلّا أن دمشق، تتمسّك حتى اللحظة باعتبار العلاقات الديبلوماسية والسياسية ذات أهمية أكبر من العلاقات الأمنية، ولا تبدي استعداداً لمنح الألمان ما يريدونه من دون ثمن. ومما لا شكّ فيه، أن دمشق ستزداد تصلّباً في موقفها بعد العودة إلى الجامعة العربية وتعزيز العلاقات الثنائية مع دول عربية وأوروبية. بينما تستمر برلين في سياسة استيعاب اللاجئين «المختارين» لما يضيفونه من نشاط على الواقع الاقتصادي واليد العاملة المهنية، ويساهمون مستقبلاً في تبديد المخاوف من انعكاسات أزمة الخصوبة على إنتاجية «الشركة الألمانية».
في الإدارة الألمانية اليوم، أصوات تتعالى لإعادة العلاقات بين برلين ودمشق، على أساس الواقعية السياسية، واعتبار الدولة في سوريا أمراً واقعاً. يحاجج هؤلاء صانع القرار الألماني بعقم سياساته، والخشية من بقاء برلين خارج دائرة التأثير الجدّي في سورية ولبنان، على الأقلّ. الأمر الذي لا يتحقق، إلّا بعودة العلاقات مع دمشق. وتصيب هذه الأصوات الداعية إلى الاعتدال، عند النظر إلى نتائج سياسات «المزيد من الضغط» على الأخصام التي يمارسها الغرب عموماً، لدفعهم إلى موقع الشركاء. إذ إن هذه التجارب، لم تنجح، لا مع ألمانيا ولا مع غيرها، وبدل أن تبتعد إيران وكوريا الشمالية مثلاً عن الصين وروسيا، التصقتا بهما، وهذا ما يصيب سوريا التي احترفت لعبة العناد والصبر طوال خمسين عاماً.
تستشعر الدوائر الألمانية المساعي الفرنسية الخفية للعودة إلى سورية من بوابة لبنان


تستشعر تلك الدوائر الألمانية أيضاً، المساعي الفرنسية الخفية للعودة إلى سورية من بوابة لبنان، والعين على المرافئ من بيروت إلى اللاذقية، ما يضع برلين في منافسة جديّة أمام الخصم/ الحليف الفرنسي التقليدي. فألمانيا وفرنسا لم تعودا حليفتين وثيقتين متفقتين على كل التفاصيل. وهذا ما ظهر في النقاشات السياسية والدفاعية والطاقوية منذ تفجر الحرب الروسية - الأوكرانية، حين ظهرت نزعة ألمانية أكثر نشاطاً وتنافسيةً إلى حد إثارة قلق الفرنسيين، المتأخرين اقتصادياً عن الألمان.
كما يدرك الألمان حجم المصاعب الاقتصادية والسياسية ومخاطر الهجرة الواسعة الناشئة عنها على الشاطئ الشرقي للمتوسط. والأهم، أن ألمانيا التي تحاول قيادة «السياسات الخضراء» في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، ليست بعيدةً كثيراً من سورية ومحيطها، حيث يقع واحدٌ من أخطر التحولات البيئية في العالم.
فهل تستمع برلين إلى الأصوات «العاقلة» التي تحاول إنزالها عن الشجرة على قاعدة البراغماتية الواقعية، أم ستستمر في لعبة التصعيد ذات النتائج المجرّبة، وتتوقّع نهايات مختلفة، لمجرّد مجاراة المواقف الأميركية، ومن دون الالتفات إلى أن الأميركيين أنفسهم، يجالسون السوريين ويحاورونهم؟