يحلّ عيد العمّال العالمي في لبنان هذا العام، كغيره في الأعوام السابقة، محمّلاً بأزمات اقتصادية واجتماعية ومعيشية، إلا أن هذه السنة تفوّقت على غيرها بسلب العمّال أدنى حقوقهم. فلائحة المطالب تطول ولا يمكن تفضيل مطلب على آخر، بدءاً من الأجور التي فقدت قيمتها وصولاً إلى الضمان الصحي والأمن الاجتماعي والتعليمي.وفي ظل غياب الدولة ومؤسساتها وعجزها عن تقديم المساعدة وسدّ الفجوة الكبيرة والتفاوت بين ما يجنيه العامل وما هو ملزم بتسديده، خصوصاً مع انهيار قيمة العملة الوطنية وتلاشي قدرة العمّال على المكافحة والاستمرار بأجور بلا قيمة لا تكفي لسداد الحدّ الأدنى من ضروريات الحياة. يجد العامل نفسه مجبراً على تأمين مورد رزق ثانٍ، بدل الاكتفاء بالعمل لثماني ساعات، فالرفاهية والراحة في العمل لم تعودا من أولوياته، إنما الكدّ طوال اليوم لتأمين قوت أبنائه. فمتى ينعم العامل بالراحة في عيده؟.
تحتفل غالبية دول العالم في الأول من أيار من كل عام بيوم العمّال العالمي، أو اليوم العالمي للتضامن مع الطبقة العاملة، والذي يعود تاريخه إلى أكثر من قرن ونصف قرن، بعد تحرّك ثورات عمّالية في عدد من دول الغرب والولايات المتحدة اعتراضاً على ظروف العمل القاسية، وبهدف المطالبة بتقليل ساعات العمل من 12 أو 15 ساعة يومياً إلى ثماني ساعات.

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

في لبنان اليوم، يتراوح المعدل العام لقيمة أجور العاملين في القطاعين العام والخاص بين سبعين دولار ومئة، في حين تدولرت أسعار غالبية السلع والخدمات بما فيها الأدوية والمواد الغذائية والطاقة، فبات إيجار أصغر شقة سكنية في ضواحي العاصمة بيروت يتجاوز مئة دولار، أي أن على الأجير العمل شهراً كاملاً فقط لتأمين سقف يؤويه وعائلته، من دون القدرة على تأمين حاجاته الأساسية الأخرى، كالطبابة والتعليم والمأكل والمشرب واللباس وبدل التنقلات وغيرها.
ولم تعد أولويات العمّال التظاهر لتحسين ظروف العمل ورفع المطالب كمنع عمالة الأطفال وزيادة الأجور، إنما من أجل ضمان العيش وتلافي الموت أمام أبواب المستشفيات، وتلافي ذل محتّم بسبب فقدان الأدوية واستحالة الحصول على ما توفّر منها في السوق السوداء بسبب ارتفاع أسعارها.
وأضحت عمالة الأطفال من المسلّمات والضرورات، بعد أن كانت من المحرّمات، ما ينذر بمستقبل مخيف ونسب عالية من التسرّب المدرسي بسبب انعدام قدرة العاملين في القطاعين الخاص والعام على دفع الأقساط في المدارس الخاصة مع غياب التعليم الرسمي.
وأصبحت ضرورة اطّلاع العاملين على عقد العمل ومناقشته وتشجيعهم على الانضمام إلى النقابات والتأكد من انتسابهم إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وضرورة تطوير الأطر النقابية والمدنيّة التي تساعدهم والموظفين على فهم حقوقهم وواجباتهم بشكل أعمق، شكليات أمام الانهيار الأمني الاقتصادي والبنيوي الذي يمر به لبنان.
لم تعد أولويات العمّال في لبنان التظاهر لتحسين ظروف العمل وزيادة الأجور بل لضمان العيش وتلافي الموت أمام أبواب المستشفيات والذل المحتّم بسبب فقدان الأدوية


أطلقت الحكومة عام 2022 برنامج «شبكة الأمان الاجتماعي في حالات الطوارئ»، المموّل بقرض من البنك الدولي، لتوسيع الحماية وتوفير الخدمات الاجتماعية للأسر التي تعيش في فقر، بهدف الوصول إلى 786 ألف فرد، أي حوالي 11.6% من السكان، بمساعدة نقدية بحلول العام 2025. ويكاد يكون هذا الإجراء الوحيد الذي يمسّ المواطنين، إذ لم تقدّم الحكومة أي خطة أو إجراء لتحسين الأوضاع، خصوصاً في ما يتعلق بالرقابة على العمالة الأجنبية ومزاحمتها للعمال اللبنانيين، ولا يقصد هنا اضطهاد الأجانب أو التمييز، إنما التأكد من حسن تطبيق قانون العمل لضمان فرص عمل للبنانيين. ففي الوقت الذي يعمل جزء من اللبنانيين بأجور غير كافية، يبقى الجزء الأكبر منهم عاطلاً عن العمل مقابل عمل الأجانب بصورة غير قانونية ومن دون أوراق رسمية وبأجور أدنى بكثير من تلك التي يتقاضاها العامل اللبناني.
في عيد العمّال هذا العام، لا بد من تأكيد ضرورة تحمّل الحكومة المسؤولية، من خلال وضع خطط وتأمين تمويل عن طريق الضرائب التي تُفرض على أصحاب الثروات حصراً، بهدف تأمين الحق في الضمان الاجتماعي من خلال تعزيز صندوق الضمان الاجتماعي للدعم الطبي وتوفير برامج دعم تعليمي وتقاعدي للعاملين في القطاعين الرسمي والخاص على حد سواء، (راجع «القوس»، 21 كانون الثاني 2023، "لا عدالة ضريبية").
كذلك التأكيد على فرض الرقابة الصارمة على أصحاب العمل وتفعيل عمل التفتيش للتأكد من التزام الموظفين في القطاع العام، واحترام المؤسسات لحقوق العاملين في القطاع الخاص، إذ تستغلّ الكثير من المؤسسات وضع العاملين الصّعب وتحرمهم من بعض المخصّصات ومن الإجازات وتفرض عليهم أجوراً لا قيمة لها، أو تصرفهم تعسفياً من دون أي تعويضات.
في ظل عجز الدولة عن تأمين فرص عمل لمواطنيها نتيجة لما تمرّ به من فوضى وحالة اللا دولة واللا أمن، وفي ظل غياب أي أمل بوضع خطة اقتصادية متكاملة للنهوض، ومع غياب أي دور فاعل للاتحاد العمّالي العام والنقابات العمّالية، يرزح العمّال اللبنانيون تحت خط الفقر آملين بالانفراج أو الهجرة.