منذ وقت غير قصير، تخضع البلديات في لبنان لنظام انتخابي يبقيها أسيرة لعبة التنافس على مستوى عائلات وتجمعات صغيرة، تعكس إلى حد بعيد التنافس السياسي. ولطالما كانت هذه العائلات محسوبة، ضمناً، على قوى ومرجعيات سياسية حاكمة. كما يتيح القانون المنظم لعمل البلديات تحوّل نواب المنطقة إلى مشرفين أو أوصياء فعليين على البلديات التي تقع ضمن نطاق عملهم الانتخابي. وعملية التخادم قائمة بصورة دائمة بين النواب والقوى التي يمثلونها وبين المجالس البلدية والاختيارية التي يتم انتخابها، ما يجعل التمثيل بمعناه الأقرب إلى حاجات الناس ساقطاً.في الفترة الأخيرة، عقب تراجع قدرات الدولة المركزية، وفراغ الصناديق الداعمة للبلديات من الأموال، لجأت بلديات القرى إلى الشخصيات المركزية فيها، سواء كانت سياسية أو نيابية أو اجتماعية، لتوفير المال الذي ينفق في مشاريع صغيرة غالباً ما أخذت طابعاً فولكلورياً، خصوصاً بعد الفورة الأولى نهاية القرن الماضي، عندما كانت إنجازات غالبية البلديات في لبنان تقتصر على اللوحات التي تدل على أسماء الأحياء ومنازل النافذين في البلدة، أو على بعض الأشغال التي ركزت على القصور البلدية كما على النصب والبوابات العامة للقرى والبلدات. فيما قلة قليلة من البلديات اهتمت بالحاجات الفعلية لسكان القرى والبلدات والمدن، لا سيما أن الجميع يتكل على أن الحكومة المركزية، من خلال الوزارات المعنية، هي من يتولى إقامة المشاريع الحيوية للناس وإدارة المؤسسات العامة.
مع الأزمة الاقتصادية والمالية الكبيرة التي يواجهها لبنان، ضرب الطفر البلديات كافة. وإلى جانب الخلافات التي أدت إلى استقالة أو حلّ عدد كبير منها، فإن ما بقي صامداً لا يعدو كونه مجرد لافتة، حيث لا موازنات ولا جبايات ولا من يحزنون، بينما ألقيت المسؤولية المباشرة إما على الأثرياء المحسنين من أبناء هذه المناطق، أو على القوى السياسية الكبيرة والغنية، أو على المرجعيات التاريخية التي تخشى على قواعد زعاماتها الطائفية والمذهبية والعائلية. لكن العمل البلدي بات مفقوداً بصورة كبيرة، وظل النشاط محصوراً بحده الأدنى في البلديات الكبرى، حيث يوجد عدد كبير من المؤسسات والمنشآت يسمح بجباية تكفي لتشغيل البلدية بالحد الأدنى من الأعمال.
في المقابل، حلّت محل الدولة المركزية التي غابت، منظمات غير حكومية تحصل على تمويل خارجي، أغلبه من دول أميركا وأوروبا وبعض الدول العربية. وهي منظمات تملك آليات عمل خاصة، وتنفّذ مشاريع هي جزء من أجندة يضعها الممول بحسب مصالحه. هذا النشاط تكثف بصورة كبيرة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، وبات مصدراً للرزق على مستويات عدة، وكانت الحصة الأكبر فيه للجمعيات المعنية بملف النازحين السوريين الذين يتعرضون لهجمة قاسية، وفي الوقت نفسه لعملية نصب منظّمة من خلال مراكز التمويل والوسطاء العاملين معها على شكل منظمات غير حكومية.
اليوم، يعيش الناس معضلة تعطل العمل البلدي. لا المجالس القائمة راغبة في البقاء في منصبها، ولا الدولة قادرة على إجراء انتخابات حقيقية، ولا توجد معارضة قادرة على إدخال تعديلات جوهرية على قانون البلديات تتيح فرض تغييرات جوهرية، تبدأ بلوائح الشطب التي يفترض أن تشمل دافعي الضرائب في هذه البلديات لا المسجلين في دوائر النفوس العائدة إلى نطاقها، وتمر بالصلاحيات التي تخفف من وصاية وزارة الداخلية عليها، وتمنع النواب من منافسة رؤساء البلديات على أعمالهم، وتدفعهم للتركيز على العمل التشريعي في المجلس النيابي، وتصل حد النقاش في فعالية المجالس البلدية الصغيرة أو الموسعة.
صار من الضروري الإقرار بفشل تجربة العمل البلدي كما نعرفها والذهاب إلى أطر مختلفة تتيح التمثيل الشعبي والتنموي بصورة أفضل


وطالما أن الجميع يناقش اليوم ملف اللامركزية الإدارية الموسعة المنصوص عنها في اتفاق الطائف، وحيث يريدها البعض على شكل فيدرالية تقفز إلى السياسة بدل حصرها في الشأنين الإداري والمالي المحلي، ربما صار من الضروري البحث في أفكار أخرى، تسمح بفتح الباب أمام برامج تنمية من نوع مختلف. وربما يكون ذلك، من خلال الإقرار بفشل تجربة العمل البلدي كما نعرفها منذ زمن بعيد، وأن نذهب إلى أطر مختلفة، تتيح التمثيل الشعبي والتنموي بصورة أفضل، وتحسن من شروط الانخراط في هذا النوع من السلطات.
ومن بين هذه الأفكار، الذهاب نحو تعديل دستوري يسمح بإنشاء مجالس للأقضية، بحيث يكون هناك انتخاب لمجلس القضاء ورئيسه من القاطنين ضمن نطاقه الجغرافي، على أن يكون من دافعي الضرائب في هذا النطاق، وأن يصار إلى وضع آلية لمجالس محلية استشارية في كل بلدة، بما يسمح للتمثيل أن يتحقق على أكثر من مستوى. وعندها يمكن لهذه المجالس وضع استراتيجيات لتنمية أكثر فعالية بعيداً من مركزية الدولة، ما يتيح لها حتى الدخول في برامج توفير الطاقة والكهرباء ومشاريع المياه، وإدارة الوحدات التعليمية والصحية في نطاقها. كما يمكنها تولي إدارة العمل الإداري العام الذي يحتاجه المواطنون من دولتهم. وعندها، يكون بالإمكان توزيع عائدات الصندوق البلدي المركزي وفق آلية أكثر عدالة لناحية ارتباطها بعدد السكان في كل قضاء وعدد المنشآت القائمة فيه، سكنية كانت أو خدماتية أو تجارية. وعندها يمكن البحث في شكل جديد للمجلس النيابي يجعله أقرب إلى المجلس التشريعي منه إلى رابطة مقدمي الخدمات!