عدّلت المنظمات غير الحكومية في لائحة أهدافها من ورش التدريب التي تنظّمها قبل الانتخابات النيابية عادةً. بعدما كانت الأولوية للتعريف بقانون الانتخاب ودور البلديات وكيفية مساءلتها، بات التركيز أكثر على فكرة «نسيان» السلطة المركزية والاعتماد الكلي على تمويل الجهات المانحة كشرطٍ لنجاح المجلس البلدي إذا أراد الخروج من دائرة تأثير الانهيار المالي ضمن نطاقه المحلّي. وكان لافتاً عدم الضغط الجدي باتجاه إجراء الانتخابات كاستحقاق بذاته، بقدر العمل على إحداث تغييرٍ فكري حيال النظرة للبلديات.وتحت عناوين «تشجيعية» للمجتمعات المحلية من قبيل «التعريف بقانون البلديات وكيفية الانتخاب»، نشطت المنظمات غير الحكومية العامِلة منها في مجال الحوكمة أو المتخصّصة بدعم النساء وبناء قدراتهنّ أو المعنية بـ«تعزيز الحوار بين الثقافات والمجتمعات»، قبل مدّة، في تنظيم ورش عمل - كما قبل كل استحقاق - عن صلاحيات البلديات وكيفية تمويلها، وعن اللامركزية الإدارية والتدريب على المُناصرة والمساءلة، بدعمٍ من مؤسسات كـ«SEEDS» و«فريدريتش إيبارت ستيفتنغ، FES» و«فردريش ناومان»، وحضر بعضها سفراء دولٍ مانحة مساهمة في التمويل.
تشابهت المنظمات في برامج تدريبها، وانطلقت جميعها من أن في إمكان المجالس البلدية، من خلال إدارة جيّدة، الخروج من الأزمة الاقتصادية. وخرج أكثر من مشاركٍ خضع للتدريب بانطباعٍ أنّ «المنظمات تحاول قدر الإمكان فصل البلديات عن سلطة القرار المركزية»، إذ إن التركيز على فكرة أنّ «المجلس البلدي الناجح هو الذي لا يعتمد على المال العام، ولا يعوّل على الجباية أو على عائدات الصندوق البلدي فاقدة القيمة بعد الانهيار، بل القادر على جذب التمويل الخارجي لمشاريعه الإنمائية، والمُكتفي حصراً بهبات الجهات المانِحة التي تؤمّن له الاستمرارية والفعالية». وهذا يستلزم المرور حكماً بالمنظمات نفسها عبر تمتين العلاقة معها، لتكون بمثابة جسر عبورٍ يَصِل البلديات بالجهات المُمولة.
أما عدّة الشغل، فيكتسبها المشاركون في الورش من خلال التدريب على كيفية التفكير من «خارج الصندوق»، إذ يعطى الاهتمام لـ«الأفكار المبتكرة خارج الطرق التقليدية المعروفة في العمل البلدي، وكيفية اختيار المشروع الأهم للبلدة، وطريقة تقديمِهِ ضمن قالِبٍ جاذب ومُقنِع بأسبابه الموجبة وفائدته للجهات المانحة لضمان نسبة قبول عالية». ولتوسيع نفوذ البلديات على الأرض بما يخدم فكرة تقوية السلطة المحلية على السلطة المركزية، وجدت الـ«NGOS» أن إعدادها كوادر لمجالس بلدية كهذه تعوزه الإضاءة على الصلاحيات الواسعة الممنوحة للبلديات بحكم القانون، كإنشاء المدارس والمستشفيات والمعامل وغيرها من مشاريع التنمية المستدامة، بدلاً من حصرِ دورها في تزفيت الطرقات وبناء حيطان الدعم وما شابه من خدماتٍ تقليدية محدودة الأثر.
عملياً، تروّج هذه الورش لفكرة أن «المجتمع يطوّر نفسه بنفسه في ما خصّ المشاركة في الشأن العام، وبدأ كثر يأخذون مبادراتٍ للحل بفعل أن المشكلات الاجتماعية أصبحت جزءاً من حياتهم اليومية بعد انهيار 2019»، تقول إحدى المُدرِبات. تعتمد على هذا الواقع لتروّج لسرديّة أنّ «قيادات السلطة المحلية الجيّدة التي تعيد القراءة الداخلية لإدارة العمل البلدي، تستطيع كسب ثقة المنظّمات الدولية التي ستتعامل معها بمثابة حكومة مصغّرة عليها بالعمل الإنمائي الصحيح وتحقيق الاكتفاء الذاتي في البلدة، ما يمنحها أيضاً ثقة المتموّلين من أبناء البلدة موجودين كانوا أو مغتربين يقدّمون التبرعات». ولا تخفي تفضيل الجهات المانحة «التعامل مع إدارات محلّية ناجحة على الاستمرار بالغوص في دهاليز مؤسساتٍ كمجلس الإنماء والإعمار وغيره...». كما ترتاح المنظمات لـ«التسهيلات المعطاة للبلديات في قانون الشراء العام لجهة قبول الهبات والتبرعات»، ما يساعد على اكتمال الحلقة.
نجاح البلديات يرتبط بتأمينِ تمويل المشاريع على حسابِ دورِها كهيئاتٍ مُنتخبة لها بعد متّصل بالمشاركة السياسية


لهذا السلوك الجدلي للمنظمات معارضوه ومؤيدوه، لكن الحذرون. فمع التسليم بضرورة قوّة السلطة اللامركزية، يقرأ متخصّصون في مضمون التدريب، «دفعاً باتجاه تجزئة الأزمة لا مركزيّتها يفرض البحث عن سبلِ نجاةٍ لكل مجموعةٍ على حدة، مُهمِلاً أهمية التعافي المجتمعي الشامل عبر خططٍ تنموية وطنية المستوى». وبمنظورٍ اقتصادي، تعد هذه القاعدة «خبز» النظام النيوليبرالي في التعاطي مع الأزمات، بحيث يقوم على فكفكتها وتعزيز التفكير بنوعٍ من الخلاص الفردي. وفي حالة البلديات استدعى ذلك برأي معنيين «تحويلها من هيئات مُنتخبة إلى «Ngos» عندما حُصِرَت مهامها في تأمينِ تمويلِ المشاريع على حسابِ دورِها كهيئاتٍ مُنتخبة بشكلِ تُصبح فيه شرعيتها مستمدة من مدى قُدرتِها على جذبِ المانحين أكثر منها شرعية شعبية لها بعد متّصل بالمشاركة السياسية».
وليس بعيداً من نهج أهل النظام، «تكرّس المنظمات ثقافة التسوّل كمخرجٍ»، يقول دكتور علم الاجتماع السياسي في الجامعة اللبنانية حسين رحال. والتخوّف أن سياقها الطبيعي «يؤسس لوجود طبقة تشعر أن مصالحها السياسية ونجاحها مرتبط بمؤسسات دولية، قد تشكّل على المدى الطويل لوبياً يبني شبكة مصالحه على رؤية غير محلّية». يضاف إلى ذلك ثغرة مرتبطة بقوة علاقة كل مجلس بلدي بالمنظمات، إذ يلفت رحال إلى «عدم تكافؤ الفرص، بين من يتمتع بعلاقات أفضل مع المانحين فينمّي بلدته وبين آخرين لن يتمكنوا من إنجاز عدد المشاريع نفسه، ما يخلق طبقية بين البلدات».
في المقابل، يمثّل الوزير السابق زياد بارود رأي شريحة تختلف بقراءتها للمشهد، ومع تأكيده على أهمية الخطط التنموية الشاملة للمواجهة، لا يرى أن البلديات تملك ترف انتظار إقرار تلك الخطط، في ظلّ الفترة الصعبة على صعيد السلطة المركزية العاجزة عن تأمين رواتب موظفي الإدارة العامة مثلاً. فلا مانع «من أن يتدبّر كل مجلس بلدي أموره ضمن ما يسمح به القانون، الذي تحدّثت مواده عن صلاحيات كبيرة جداً للبلديات تغطي هوامش إنمائية كثيرة». وطالما أن «الرقابة موجودة من قبل وزارة الداخلية والمحافظ والقائمقام، فهي كفيلة بضبط أي انزلاق لمصالح خارجية». وما الحرص برأيه على هذا الدور للبلديات إلا كونها «جزءاً أساسياً وخلية أولى في النظام اللامركزي».



المانحون كانوا يعرفون؟
لفتت مصادر مطلعة إلى أنه رغم الحرص الذي أبدته دول عدة غربية على إجراء الانتخابات البلدية في موعدها، لوحظ ردة فعل خجولة على قرار إرجائها، ناهيك عن أن المعلومات تؤكد أن الدول المانحة خفّضت تمويلها المرصود لورش التدريب البلدي إلى النصف، حتى قبل طرح إرجاء الانتخابات.