لم يرتدع أهل الحكم رغم كل مظاهر الانهيار ونتائجه القاسية. يرفض هؤلاء التفكير ولو بإصلاح الحد الأدنى. وهم يفعلون ذلك بوعي المتآمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام مستوى جديد من التدخل الخارجي.عندما يصبح التهليل للقضاء الأوروبي مشروعاً، يتحمّل المسؤولية من ترك القضاء المحلي ينازع ومنعه من القيام بدوره في ملف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشركائه. إلا أن ذلك لا يمنع الخوف المبرّر من رغبة غربية في فرض وصاية على العدالة في لبنان، وهو ما نسمعه في قضية تفجير المرفأ مثلاً. لذلك، لم يعد الجمهور يعرف كيف يقيس موقفه. فمن يريد استقلالية القرار اللبناني، يعتبر أن لبنان لم يعد بلد العدالة المحققة، وأن إدانة أي فاسد تحتاج إلى عون من القضاء الخارجي.
لم تهتم أميركا وأوروبا ولا كل توابعهما بمحاربة الفساد الحقيقي في لبنان، مع ذلك، نرى من يرحب، بل يطلب، أن يتولى القضاء الأجنبي ملف الفاسدين. وهذا النوع من اللبنانيين لا يهتم، أو لا يدرك، أن هذا يفتح الباب أمام مقايضة هي الأخطر في حياة الأمم: مقايضة العدالة بالتبعية والوصاية.
لذلك، لم يعد النقاش مجدياً إن توقف عند شعارات فضفاضة ضد المنظومة والعصابة وحزب المصرف وخلافه. المعركة تصبح مشروعة عندما يُرفع إصبع الاتهام بوجه الخارج من جهة، وبوجه من يستدعي هذا الخارج من اللبنانيين من جهة ثانية. ومن حقنا رفع الصوت ضد هذه الوصاية الجديدة التي يمررها الغرب بصفاقة تطبع سلوك الفرنسيين والألمان على وجه الخصوص. والرفض لهذا التدخل، يجب أن يظل مقروناً بخوض معركة الدفاع عن جزء من القضاء الذي عمل ويعمل بأمانة وحرفية ليصل إلى الحقيقة في ملفات الفساد.
وحتى لا يغرق كثيرون في الأسئلة الكيدية، فإن تفاصيل التحقيقات التي أجراها القاضي جان طنوس في ملف شركة «فوري» وعلاقة حاكم مصرف لبنان وشركائه المباشرين وغير المباشرين، من أفراد عائلته إلى موظفين في المصرف المركزي إلى مصرفيين في لبنان وأوروبا، كل هذه التحقيقات، تمثل الأساس الذي يبني القضاء الأوروبي عليه وجهته وقراراته.
وليس هذا غريباً. إذ إن ملف المحكمة الخاصة باغتيال رفيق الحريري، التي استهلكت مالنا وأعصابنا ودماء شعبنا، عاد إلينا بتقرير أعدّه محققون من لبنان. ولم يعد كافياً تحميل الحكام المسؤولية عن التدهور الحاصل، بل صار ضرورياً البحث عن شركاء هؤلاء في الجريمة، سواء كانوا موظفين برتب عالية في مؤسسات الدولة، أو حتى وسطاء يعملون على استدعاء الوصايات، وهي الجريمة التي لا تقتصر على عدم معاقبة فاسد أو منع محاكمته في لبنان، بل تصل إلى حد هدر الأموال التي سرقت ويفترض إعادتها إلى جيوب الناس من مودعين وموظفين ومواطنين، وها نحن اليوم أمام تواطؤ سيؤدي إلى ترك الملف بيد العواصم الأوروبية التي لن تلاحق المرتكبين من مواطنيها ومؤسساتها، بل سترمي بالوسخ كله علينا، ثم تعمد إلى مصادرة كل الأموال والأصول وتضعها في خزائنها التي يخرج منها تمويل عمليات التخريب والتدمير لبلادنا ومؤسساتها.
فاسدو لبنان تركوا أوروبا تصادر ملف معاقبة الحاكم ويتركون للخارج مصادرة السلطة من خلال مؤسسات محلية على هواهم السياسي


وفي السياق نفسه الهادف إلى فرض النفوذ، يخوض الغرب اليوم معركة إجراء الانتخابات البلدية في لبنان. وتمارس العواصم نفسها، في أوروبا وأميركا، الضغط لإقرار الخطوات الإجرائية، وتبدي حرصها على العملية الديموقراطية، واستعدادها لتوفير التمويل المطلوب. لكن لا حاجة للبحث عن غاية هؤلاء.
فرغم أن اتجاهات التصويت السياسي كرستها الانتخابات النيابية الأخيرة، إلا أن غالبية كبيرة من القوى السياسية لا تريد الانتخابات البلدية. ومع أن عدم حصول هذه الانتخابات يمثل خطوة جديدة في مسار انهيار الدولة، لكن لا يمكن تجاوز موقف اللامبالاة الظاهر اليوم، ومرده أن الواقع المالي للدولة والناس، سيمنع هذه المؤسسات من القيام بأي دور خاص.
لكن، عند هذه النقطة بالتحديد، يقفز الطرف الخارجي ليجلس في حضننا، وما يريده من السلطات المحلية غير ما نريده نحن. الغرب وبعض العرب يريدون القضاء على الدولة المركزية، ويشجعون بعض المجانين على السير في مشروع يستهدف التقسيم سياسياً ومالياً على أساس طائفي ومذهبي. والغرب يفتش عن حيلة جديدة، بعد الفشل الذي منيت به المنظمات غير الحكومية، ويعتقد أنه بمقدوره استخدام البلديات والسلطات المحلية كبديل لإدارة شؤون مدن وقرى وأقضية. وإذا كان المجلس النيابي أو الحكومة يفرضان على المانحين استراتيجية واضحة ومسارات دقيقة، فإن اللجوء إلى السلطات المحلية يتيح لهذا الوصي الخارجي اختيار من يرغب من هذه البلديات، ويتعامل معها وفق ما يراه مناسباً. وعندها نكون قد فتحنا الأبواب كافة، أمام غول الغرب الذي يريد نهش ما تبقى من عناصر قوة فينا، حتى نسجد له صاغرين!
حكايتنا مع القضاء الخارجي، كما حكايتنا مع حرص الغرب على مستقبل الديموقراطية المحلية، لا يمكن تركها رهينة المعادلة القذرة التي تقول إن الوصاية هي مصدر الرخاء والعدالة معاً!