في الحالات الاستشفائية الطارئة، تتقدّم أولوية إنقاذ المريض على أي اعتبار آخر. بديهياً، يختار أحدنا المستشفى الذي يقترحه عليه الطبيب المعالج، لكون الأخير سوف يضمن حتماً وبلا أدنى تفكير لمريضه رعاية صحية جيدة ومتابعة مستمرة واهتماماً كافياً من الفريق الطبي هناك. الأمر هنا مرتبط بعامل نفسيّ، إذ إن المريض وأهله يثقون بالمستشفى على قدر ثقتهم بالطبيب. في تلك اللحظة الحرجة، لا يلتفتون إلى البُعد الجغرافي لجهة قرب المستشفى أو بُعده من المنزل، ولا حتى إلى الاعتبار المادي والتكاليف المنتظرة.إلى طوارئ مستشفى «كبير» في العاصمة نصل، ونشعر بأننا بتنا في أيادٍ أمينة. يستقبلنا القسم بسؤال عما إذا كان أحد الأطباء تواصل مع المستشفى وحجز لنا مكاناً. نجيب بالإيجاب فتخرج عبارة تُثلج صدورنا: «لا عليكم، دقائق ويأتي فريق الحكيم ويكون في خدمتكم». يُطلب منا في هذه الأثناء مراجعة مكتب الدخول، فتتسارع دقات القلب توجّساً مما سيكون عليه المبلغ المتوجب دفعه «عربوناً» للمغامرة. قبل خوض أي نقاش، يبلغنا الموظف بأنه ليس هناك أي سرير فارغ، ومن ثم يسأل ما إذا كان المريض «مؤمناً»، أي إنه يستفيد من أحد التأمينات الصحية. وعندما نقول له إنه «مضمون» على حساب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، يردّ: «يعني على حسابكم».
في هذا الوقت، يتأمّن السرير فجأة، ويبدأ الكلام عن المبالغ المالية المتوجبة قبل الدخول: 73 دولاراً للطوارئ، و2500 دولار deposit للصعود إلى الطابق. نخرج ورقة المئة دولار لندفع رسم دخول الطوارئ، ينتفض الموظف ويقول: «يا عيب الشوم. دعوها في جيبكم، المهم بالنسبة إلينا صحة المريض، ما أفعله هو أنني أشرح لكم الوضع لتكونوا على بيّنة مما ينتظركم». في هذه الأثناء، يأتي مساعد الطبيب المعالج، وتنطلق الإجراءات في قسم الطوارئ، من تحاليل طبية وغيرها. نترقب النتائج باعتبار أن تشخيص أسباب المشكلة يتقرّر هنا وليس في الطابق. نُستدعى مرة جديدة لزيارة مكتب الدخول، وهذه المرة لندفع «العربون»، فنفاجأ بأن المبلغ انخفض إلى 2000 دولار، فيما الموظف يجسّ النبض ما إذا كان المال المطلوب في حوزتنا. صادفت أننا استطعنا بطريق أو بآخر تجميع المبلغ. ماذا لو لم يُجمع؟ كيف كان سيكون الموقف؟ ندفع «المرقوم» ونسأل عن الموظف المعني بإجراءات الضمان، فيُقال لنا إنه لا يداوم الأحد، وعلينا أن ننتظر حتى الغد للاستفسار عن الملف.
بعد دفع «العربون»، نستكين لما ستؤول إليه الأمور في الأيام المقبلة. نصعد إلى الطابق حيث تبدأ إجراءات العلاج المناسب لمريضنا، فيما ينتابنا قلق مزدوج من القدرة على الشفاء، والقدرة على دفع الحساب وما إذا كان سيتجاوز العربون أم لا. صباح اليوم التالي، نذهب رأساً إلى الموظفة المعنية بمتابعة معاملات الضمان، علّنا نخفّف من «الفاتورة» التي خوّفنا من حجمها كلّ من التقينا به في المستشفى. تسارع الموظفة إلى «تهبيط الحيطان» بالقول «لا أستطيع أن أفعل لكم شيئاً بما أنكم دخلتم على حسابكم الخاص، وحتى لو باشرتم بالمعاملة، فإن التغطية لن تتجاوز الـ 150 دولاراً في أحسن الأحوال». وعندها تنصحنا بتقديم طلب لدى مكتب المساعدات الاجتماعية في المستشفى، وتطلب لنا موعداً من المساعدة الاجتماعية الموجودة في الطابق، حيث يتابع مريضنا علاجه. نذهب إلى الموعد المحدّد، فتقول لنا المساعدة إننا لا نستطيع أن نقدّم طلباً قبل تشخيص الحالة وصدور تقرير الحكيم، وتضرب لنا موعداً آخر. في هذا الوقت، كان التقرير قد صدر وتقرّر نقل مريضنا إلى قسم وطابق آخر، وبالتالي علينا مراجعة مكتب المساعدات الاجتماعية المركزي مرة أخرى. ومع أن الأولوية بالنسبة إلينا كانت الاطمئنان إلى صحة مريضنا الذي بدأ يتعافى، ولم يحتج إلى أي عمل جراحي، إلا أن الخوف من الفاتورة بقي يشغل بالنا.
هناك غموض في الفوترة فلا نعرف أدنى معطى عن كلفة ليلة المنامة والإقامة في المستشفى

نقرّر يوم الجمعة أن نسأل عن قيمة المبلغ المتراكم علينا كي لا نفاجأ به يوم الإثنين، موعد الخروج من المستشفى. نصطدم بأن العداد وصل إلى 3000 دولار، ومن ثم ارتفع إلى 3400 دولار في ساعات بعد الظهر. يزداد منسوب القلق، وتبدأ رحلة البحث عن جمعيات تقدّم مساعدات اجتماعية وإنسانية، بعدما وصلنا بالتواتر بأن مساعدة المستشفى لن تتجاوز 15% في حدودها القصوى. نجمع المستندات المطلوبة من تقرير الحكيم بالحالة، إلى الأوراق الثبوتية وغيرها ونقدم أوراقنا إلى جمعيّتين، علّنا نحصّل جزءاً من المبلغ. نعود إلى موظف المحاسبة لنطلب منه فاتورة تفصيلية بالمتوجب علينا لنقدمها كمستند للجمعية، فيرفض ذلك، باعتبار أن مثل هذه الفاتورة تمنح بعد دفع الحساب الكامل، ويكتفي بإعطائنا ورقة تفيد بأن المبلغ الإجمالي التي ستتقاضاه المستشفى هو 4000 دولار. يوم السبت، نعاود السؤال مرة جديدة عن الحساب التقريبي بما أن «الحسابة لا تزال بتحسب»، فيأتينا الجواب بأن المبلغ بات 3800 دولار. نتشاور في ما بيننا، ونقرر أن لا ندع إدارة المستشفى «تضحك علينا»، وخصوصاً أن هناك غموضاً في «الفوترة» فلا نعرف أدنى معطى عن كلفة ليلة «المنامة» والإقامة في المستشفى، والتكاليف التفصيلية للصور والتحاليل الطبية. يحلّ الموعد المحدد للخروج، وقد نوينا أن لا ندفع قبل جلاء الغموض، «ويدنا على قلبنا» خوفاً من تجاوز الفاتورة الـ4 آلاف دولار، وهو مبلغ كنا قد جمعناه مرة جديدة بالديْن. نسمع صوت المحاسب يقول إن المبلغ الإجمالي هو 2550 دولاراً فقط، أي 550 دولاراً إضافة إلى عربون الـ2000 دولار، ونكتشف أننا نلنا مساعدة من المستشفى توازي نحو 12%. نتنفس الصعداء ونشكر الله على نعمة الصبر ليس على الشفاء فحسب، إنما أيضاً على المغامرة الاستشفائية أيضاً.