السيد جعفر فضل الله *يُعدّ الانتحار إحدى الظواهر التي تترافق مع أزمة يمرُّ بها الإنسان. وعندما نقول ظاهرة فمعنى ذلك أنّ علينا أن نقاربها من عدّة زوايا؛ إذ ليست كلُّ أزمة تؤدّي إلى الانتحار!
ولعلّنا نشير في البداية إلى أمرين:
أوّلًا: هذا الأمر لا يختصّ بجماعة دون أخرى، ولا بشعبٍ دون آخر، بل نجده في كلّ المجتمعات، وبالتالي لا ينبغي التعاطي معه بذهنية فئوية، أو كجزء من تسجيل النقاط.
ثانيًا: هذا الأمر لا يقتصر على غير المتديّنين بدينٍ، بل قد يترافق مع التديُّن أيضًا. ولذلك لا يعني انتحارُ شخصٍ ما أنّه عديم التديُّن أو قليله، ولا يعني أيضًا أنّ التديُّن لا أثر له في منع الانتحار، بل هو أحد أهمّ عوامل الحماية التي يجبُ إيلاؤها الاهتمام الكبير في هذا المجال. بتعبير آخر: ليس معنى أن يكون الإنسان متديّناً أنّه محصَّنٌ من الانتحار، وبالتالي يجبُ البحث عن العوامل الأخرى التي تشكّل شبكة أمان من الانتحار وفي قلبها التديُّن.
لا بدّ من تأكيد مبدأ، وهو أنّه لا ينبغي أن يكون الانتحار مقبولًا في المجتمع، مهما كان هذا المجتمع، ومهما كان الاعتبار. إنّ اعتبار الانتحار محرّمًا، أو جريمةً، أو ممنوعًا، أو خطيئة، أو ما إلى ذلك من توصيفات دينية وغير دينية، مسألة لا ينبغي المساسُ بها.
وهذه القضايا لا تُعالج بالعاطفة تجاه المنتحر، وهو بلا شكّ يحتاج إلى عاطفة، ولكنَّ الأمر مرتبطٌ بالتفكير العقلاني الذي يجب أن يركّز على الأسباب والنتائج والخطوط الحمر وما إلى ذلك، بمعزلٍ عن التعاطُف الإنساني مع شخص المنتحر والعوامل التي أدّت إلى اتخاذه لهذا القرار.
بكلّ الأحوال، لا ينبغي لأجل تبييض صفحة المنتحر بعد الموت، أن يُبرّر الانتحار. هنا نقول: طالما أنّ الانتحار ينشأ من واقع نفسي، وقد يصيب المتديّنين وغيرهم، فإنّنا لا ندري في لحظة الانتحار ما الذي كان يجول في نفس هذا الإنسان، ولذلك مع تأكيد تجريم الانتحار، لا ينبغي توصيف المنتحر والحكم عليه، فذلك شأن الله (غالباً يقوم النّاس بإعطاء تفسيرات لتبرير قيام إنسانٍ ما بالانتحار لأنّ ذلك يحلُّ مشكلة المصير الأخروي، وذلك للربط بين كَون الفعل جريمة شرعاً وكَون المنتحر أقدم على ذلك عامداً متعمّداً). ولذلك ينبغي ترك الأمر لله، وننشغل نحن في مسؤوليّاتنا الكبيرة تجاه ذلك، ما قبل حدث الانتحار في شبكة الأمان التي يجب على المجتمع الاضطلاع بها، ومنها البُعد الديني والروحي، وما بعد حدث الانتحار، وخصوصاً تجاه عائلة المنتحر التي تحتاج إلى كثير من الاحتضان، لئلّا يفرض الحدث نفسه تأزيمًا إضافيًا لأفراد الأسرة..
وفي الإسلام، قد يمكننا الحديث عن رؤية فلسفية لرفض مبدأ الانتحار، إضافة إلى النهي القرآني (ولا تَقْتُلوا أنفُسَكُم)، تنبع ممّا أكَده القرآن الكريم، وهو أنّ الله تعالى ركّب في خلق الإنسان خاصّيَتين؛ حبّ البقاء والتملّك، وبهما يعمُر الإنسان الأرض ويجلبُ الخير لنفسه ويدفع الضرّ عنها.
وعندما يُقدم الإنسان على الانتحار، فمعنى ذلك أنّ برمجة نفسه قد أصابها "الفيروس" في صميمها، ولذلك بدلاً من أن تتحرّك لأجل البقاء، فقدت الإحساس بالحياة، والحافز لمواجهة تحدّياتها، وهو ما ينعكسُ على طريقة الحياة برمّتها، وذلك من خلال الكآبة النفسية، والرغبة في الانعزال عن المجتمع وأنشطة الحياة فيه، وجعل الإنسان عُرضة للتقلّب مع ظروف الحياة، بحيث يفقد السيطرة على ذاته، فتكون الظروف هي التي تسيّره وتجعله في قالبها، والانجذاب إلى كلّ ما هو سلبيّ، فضلاً عن التوجّه النفسي نحو الأخذ بمغيّبات العقل، كشرب الخمر، أو تناول المخدّرات، وسائر الأمور التي تضرُّ بالنفس.
إنّ دور الدّين أن يعمل في خلق نوع من الحماية ويقوم ببناء سلسلة روادع تجعل الإنسان يتسلّح بالأمل الدّائم بالله تعالى، ولا يسمح لليأس بأن يزحف إلى وجدانه وعقله، ويمكّن النفس من اختبار نوعٍ من الفرح الروحيّ من خلال العبادة، النوعية عموماً، والشبكة الاجتماعية من خلال الطقوس المشتركة، والمودّة والتراحم في مجتمع المؤمنين... ولكنَّ هذا لا يعني عدم وجود عوامل أخرى، كالمشاكل الأسريّة والضغوط النفسية والأزمات الاقتصادية والسياسية وما إلى ذلك، قد تضخُّ سلبيّات تجعل التديّن نفسه غير قادرٍ على تغطية كلّ تلك الضغوط دفعة واحدة.

* أستاذ محاضر في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية