بدَّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أوهاماً وتفسيرات خاطئة، سواء عن عمدٍ أو عن قصور، أعقبت حديثه عن معادلة الردع إزاء حقوق لبنان في استخراج ثرواته البحرية. فقد أعاد التأكيد على المعادلة وجديّة حزب الله، وهو ما ينبغي التوقف عنده لما يستبطنه من رسائل ومؤشرات.أعاد الحديث عن المعادلة البحرية الى الواجهة، نجاح المقاومة ووحدة الموقف السياسي في انتزاع لبنان حقوقه في مياهه وثرواته الغازية والنفطية. وهو إنجاز ينبغي أن يبقى حاضراً في الوعي العام باعتباره محطة انتصار تُشكل ترجمة للدور الذي تقوم به المقاومة في حماية لبنان وثرواته.
عامل آخر يوجب استحضار هذه المحطة باعتبارها «إنجازاً كبيراً وعظيماً وتاريخياً»، كما وصفها نصر الله، يكمن في محاولات لطمس انتصار كبير للمقاومة، فرضت فيه إرادتها على العدو، وعزّزت قوة ردعها، وأظهرت بشكل ملموس مفاعيل تأثيرها في وعي قادة العدو ومؤسساته السياسية والأمنية.
وممّا يُميّز هذا الإنجاز - الانتصار، ليس فقط أنّه محطة ينبغي التذكير بها واستحضارها، وإنما لكونها أكثر صلة بالمستقبل. فهي لا تزال قضية مفتوحة وستبقى كذلك إلى أمد طويل نسبياً، إذ إن ما مضى لم يكن إلا إنجازات تمهيدية للإنجاز الأكبر المتمثّل باستفادة لبنان من ثرواته بما يوقف الانحدار نحو الهاوية.
مع ذلك، فإن إعادة التأكيد على معادلة الردع ليست مجرّد تذكير، بل أيضاً لتوفير شروط تحقيق أهدافه، لأن ساحة الردع هي وعي مؤسسات القرار في كيان العدو. إذ يمكن لحسابات هذه المؤسسات أن تتأثّر، سلباً أو إيجاباً، بمتغيّرات قد تعزّز مردوعيّتها أو العكس، بغضّ النظر عمّا إذا كان ذلك نتيجة تقديرات خاطئة أو صحيحة.
على هذه الخلفية، يمكن وضع إشارة الأمين العام لحزب الله الى أن هذا الإنجاز «يحتاج الى مواكبة» تفرض تغذية متواصلة - بحسب المتغيّرات - للحفاظ على فعالية ردع العدو، وتجنّباً لمغامرات قد يستند فيها الى تقديرات خاطئة، وأيضاً للبقاء على جهوزية واستعداد نفسي وعملياتي في حال حصول مستجدات في هذا المجال. هكذا يصبح الجمع بين التأكيد على المعادلة وبين كون حزب الله لا يصنع معادلة جديدة تتّصل بكاريش، أكثر وضوحاً.
التأكيد على المعادلة بالتزامن مع بدء العدو استخراج النفط والغاز كان أمراً ملحّاً، أيضاً، لأنه قد يشكّل مدخلاً إلى تسرّب مفاهيم خاطئة لدى الرأي العام اللبناني إزاء الإنجاز الذي تحقق. وهو أمر يتكفّل به المتضرّرون في الداخل من إنجازات المقاومة في مواجهة إسرائيل.
في ضوء ما تقدم، ينبغي أن لا يفاجأ أحد في لبنان أو في كيان العدو، إذا ما ارتقى حزب الله في مرحلة من المراحل للتذكير بمعادلة الردع عبر مواقف أشدّ تأثيراً، وربما أكثر من ذلك، في حال لمس تسويفاً متعمداً ومحاولات تذاكٍ لحرمان لبنان من ثرواته. أما في حال أخذت الأمور مجراها الطبيعي، فمن مصلحة الحزب ولبنان الحفاظ على المعادلة القائمة في البحر، ما دامت ستؤدي الى الاستفادة من الثروات في السياق الطبيعي، وبذلك تكون المقاومة قد حققت جزءاً أساسياً من أهدافها.
في سياق معادلة الردع أيضاً، لكن في نطاق أوسع، أكد نصر الله المعادلة التي تحدث عنها في شباط الماضي، ولوّح فيها بنقل كرة النار الى العدو الإسرائيلي رداً على محاولات دفع لبنان إلى الانهيار التام ونشر الفوضى في لبنان. ويندرج هذا النوع من المواقف في إطار «الردع الاستباقي».
كان في إمكان السيد نصر الله تجاهل بعض محاولات التحريف والتشويه التي يدرك أنها ستتواصل مع كل محطة وموقف. لكن إعادة تأكيده على هذه المعادلات مؤشر إضافي إلى عمق الالتزام بها وجديّته، وخصوصاً أن حزب الله أكثر إدراكاً بأن عدم الالتزام العملي بمعادلة بهذا الحجم - على سبيل الافتراض - ستكون له مفاعيل خطرة جداً على المقاومة ولبنان والمنطقة. وقد أثبت الحزب مراراً أنه لا يتخذ مواقف وخطوات تحت ضغط الانفعال والتشكيك الإعلامي والسياسي، الى درجة أن بعض مؤيّديه ينتقدون أحياناً حالة التأنّي والصبر التي يلتزمها.
وينبغي ألّا تغيب عن الأذهان الرسائل الكامنة في موقف السيد نصر الله الذي أوضح فيه «أعرف أنا وإخواني ما هي المعادلة التي نرسمها»، بأنها ناتجة من دراسة وتقدير قيادته والمؤسسات ذات الصلة، للسيناريوات التي ستؤول إليها الأزمة في لبنان، وللخيارات الواجب اتّباعها في المقابل. وهذا هو ديدن الحزب في كل المحطات في العقود الماضية. وأيّ التباس في هذه المسألة يكشف عن قصور في فهم الحزب وآليّة اتخاذ القرار فيه.
تؤكد معادلة الرد على الانهيار والفوضى رؤية حزب الله بأنه الى جانب الديناميّات والأسباب الداخلية والاقتصادية والمالية للأزمة التي يواجهها لبنان، هناك بعد آخر يتّصل بقرارات سياسية خارجية وداخلية هي السبب في سرعة الانحدار وتفاقمه والحؤول دون خيارات تكبحه وتعطي لبنان مزيداً من الوقت لترتيب وضعه المالي والاقتصادي – على الأقل الى حين استخراج الثروات الغازية والطبيعية.
إذا كان العدو قد لمس استعداد حزب الله لشنّ حرب من أجل الثروات فإنّ الدافع لحرب من أجل وقف الانهيار سيكون أقوى


ومن المؤشرات على تأثير هذه المعادلة لدى الجهات المعادية، أن هناك قراءات وتقديرات مختلفة في كيان العدو حول ما إذا كان الانهيار التام للبنان يصبّ في مصلحة إسرائيل عبر إغراق المقاومة في المستنقع الداخلي اللبناني، أو أنه يشكّل أرضيّة لتعزيز مكانة حزب الله في لبنان. ومن الطبيعي أن الانقسام نفسه ينسحب على المقاربة الأميركية.
وفي هذا السياق، من الجدير التذكير بموقف سابق لنتنياهو قبل أكثر من سنتين ونصف سنة، عندما تواصل مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بهدف نقل رسالة تحذير إلى حزب الله من «افتعال أزمة مع إسرائيل للهروب من الأزمة الداخلية»، معتبراً أن «رهان حزب الله على ذلك خطأ جسيم» (11/8/2020). وبغضّ النظر عن المفردات الواضحة الأهداف والخلفيات التي استخدمها نتنياهو، إلا أنها تعكس أن هذا السيناريو حاضر لدى أجهزة التقدير السياسية والاستخبارية كاحتمال وارد، وإن لم ينجحوا في تقدير حجمه وتداعياته وأسلوبه والمدى الذي يمكن أن يبلغه.
المحطة الأبلغ دلالة على قصور الجهات المعادية في فهم حزب الله، وعلى أن الخيار الذي يلوّح به يملك أرجحية كبيرة جداً، عندما يتيقّن من جدواها وموجباتها، هو أن الحزب كان مستعداً للمبادرة الى خيارات عملياتية كان محتملاً جداً أن تؤدي الى حرب في ضوء المعادلة البحرية التي أدّت الى انتزاع لبنان حقه وحريته في التنقيب والاستخراج لثرواته، وقد أدركت قيادة العدو ذلك بشكل ملموس. فكيف عندما يتعلق الأمر بانهيار لبنان ونشر الفوضى فيه؟ عندها سيكون الدافع أشدّ والاستعداد للتضحيات أكبر. وفي ضوء ذلك، يصبح مفهوماً التعبير الذي استخدمه السيد نصر الله «من يُريد أن يدفع لبنان إلى الفوضى أو الانهيار، عليه أن يتوقع منّا ما لا يخطر له في بالٍ أو وهم، وإن غداً لناظره قريب».