«مشي الحال ريّس»، بهذه العبارة كان سماسرة أمين سجّل عقاري في بعبدا يبلغونه بأن الرشوة دُفِعَت وبات يمكنه توقيع المعاملة العالقة في مكتبه بين مئات الملفات الأخرى المحتجزة لديه. أما أمين السجل في بيروت فلم تكن الـ400 دولار فريش تشبع جشعه. مثل هذه الشكاوى وصلت إلى المدير العام للشؤون العقارية جورج المعراوي قبل أشهر من مباشرة القضاء تحقيقاته في فساد الدوائر العقارية، عن طريق صورة لمحادثة عبر تطبيق «واتساب» جرت بين محامين، فطبعها المعراوي ووقّعها وحوّلها إدارياً إلى أمناء السجّل في بيروت وبعبدا، مضيفاً عليها عبارة «لإجراء التحقيقات اللازمة». كما راسل التفتيش المركزي حول وجود شبهات فساد وتقاضي رشوة في عقاريتي بيروت وبعبدا. إلا أن اللافت أن التحقيقات الداخلية لم تتم، فيما أدار التفتيش الأذن الطرشاء. ولولا تقدم عدد من المحامين بإخباراتٍ عن ممارسات فضائحية في عقارية بعبدا، ما كانت التحقيقات القضائية الجارية اليوم قد بدأت، بدلالة أن موظفي عقارية بيروت لا يزالون في منأى عن أي مساءلة على رغم مراسلة المدير العام.خطوة المعراوي أثارت جدلاً في أوساط متابعين للملف سألوا كيف يمكن للمتهم أن يحقّق مع نفسه ويعاقبها، وأنها تنم عن نيّة غير مُعلنة بـ«حمايةِ كبار الموظفين في العقاريات المتورّطين في ابتزاز الناس على رأسهم أمناء السجل». في حين يدافع المعراوي عن الإجراء في حديث لـ«الأخبار»، انطلاقاً من أن «الملفات في حال احتجازها لقاء قبض رشوة، فإن ذلك سيحصل في مكاتب معاوني أمناء السجل، وليس لدى أمين السجل نفسه»، علماً أن معاوني أمناء السجل في الغالب يعملون كـ«سماسرة» لمصلحة الأمناء، كما ظهر في التحقيقات الأخيرة.
وثمة ملاحظة أخرى تُسجّل. فرغم أن المستند الذي حوّله المعراوي إلى أمناء السجل والتفتيش المركزي تضمّن شكاوى تتعلّق بعقارية بيروت، لم يُفتح أي تحقيق، لا داخلياً ولا من قبل التفتيش المركزي حصل، وأُهمِلَ الملف. وحتى على الصعيد القضائي، لم يجد قضاة النيابة العامة في بيروت أنفسهم معنيين بالتحرّك. وفي المقابل، فُتحت التحقيقات في بعبدا بأقلامها الثلاثة، في وقت توقّفت المعاملات في الدوائر العقارية كافة المقفلة تماماً منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر. إذ إن الموظفين ممنوعون من مزاولة العمل في انتظار انتهاء التحقيقات.
هذا الوضع دفع إلى إعادة تسليط الضوء على أهمية مكننة المعاملات عن طريق الربط الإلكتروني بين الدوائر العقارية وكتّاب العدل ووزارة المالية. وهو ما ناقشه وفد فرنسي من المجلس الأعلى لكتاب العدل الفرنسي زار لبنان قبل أيام. علماً أن هناك مشروعاً فرنسياً - لبنانياً بهذا الخصوص، أطلقته وزارة المالية بالتعاون مع الجانب الفرنسي عام 2018، وأعدّت مشروع القانون الخاص به، وأحالته إلى رئاسة مجلس الوزراء. ومنذ ذلك الحين، جمّد المشروع ولم ينفّذ برنامج التعاون الخاص به «FEXTE»، علماً أن الجانب الفرنسي أرسل كتّاب عدلٍ للتدريب على تطوير آلية تسجيل العقارات. لكن رفضاً شرساً ظهر من قبل كبار موظفي الدوائر العقارية، وعلى رأسهم أمناء السجل، الذّين اعتبروا في المشروع قضماً لدورهم لمصلحة كتّاب العدل. علماً أنه «يسهّل المعاملات على المواطنين الذّين لن يحتاجوا إلى زيارة السجلات العقارية، ويمنع الأخطاء وعمليات الغش والرشوة» وفق رئيس مجلس كتاب العدل ناجي الخازن، لافتاً إلى أن زيارة الوفد الفرنسي مع وفد من مجلس كتاب العدل إلى رئيس لجنة الإدارة والعدل النائب جورج عدوان قبل نهاية الأسبوع، «كانت للاتفاق على خطةِ عملٍ، والتأكيد على أن الجهات المانحة لا يمكن أن تموّل المشروع من دون أن يكون هناك قانون بشأنه في مجلس النواب».