بكى «الكندرجي» أبو ميشال فرحاً بعد صدور نتيجة امتحانات مجلس الخدمة المدنية الأخيرة عام 2016، كيف لا، وبِكْرُهُ ميشال ضمن المقبولين لوظيفة «أستاذ تعليم ثانوي». بالنسبة إلى الوالد، «هذه مهنة العمر التي ستريح خياله من صورة وراثة ميشال لشاكوشه، والعمل بإصلاح الأحذية، وستحمل الخير والراحة لابنه وله، إذ سيتمكّن أخيراً من الحصول على تغطيةٍ صحيّةٍ لائقةٍ». ميشال، ابن الثلاثة والعشرين ربيعاً وقتها، لم ينشغل بعد تخرّجه سوى بالتدريس الخصوصي في منازل قريةٍ عكاريةٍ نائيةٍ، عملاً بالكاد يؤمّن مصروفاً لشاب أعزب، إلا أنّ ما لم يخطر في ذهن أبو ميشال أن تنقلب الآية تماماً بعد ست سنوات، وتتحوّل «وظيفة العمر»، من نعمةٍ إلى نقمةٍ، إذ لا يتمكّن ابنه اليوم من الوصول حتى إلى مركز عمله بسبب غلاء المحروقات، وتهاوي قيمة راتبه، ما اضطرّه إلى العودة إلى ورشة والده التي انتعشت مع الأزمة.
أيام العزّ!
المتقاعدون من الأساتذة يذكرون «أيام الخير»، كما يسمّونها. يحصرونها في الفترة الممتدّة من ستينيات القرن الماضي حتّى الثمانينيات، يطلقون عليها لقب «المرحلة الذهبية للتعليم»، فيها تأسّست الثانويات الرّسمية، وكليّة التربية معاً، وأعطي الأستاذ حقوقاً ماديّة أغنته عن القيام بأيّ عمل سوى التعليم والبحث العلمي. يقول النقابي محمد قاسم «في سنة 1966، وبعد إقامة المزيد من الثانويات، رفعت الدولة من رواتب الأساتذة نظراً إلى زيادة عدد الساعات التعليميّة المطلوبة منهم، من 15 أسبوعياً إلى 20»، ويضيف قاسم «حصل الأساتذة على علاوة بالرّاتب وصلت إلى 60%، ما جعل من راتبهم موازياً لـ 450% من الحدّ الأدنى للأجور، مساوياً للضابط، وأقلّ بدرجتين من راتب أستاذ الجامعة»، وهذه الظروف أدّت بالتالي إلى «النهضة في التعليم الرّسمي وتوسّعه، إذ ارتفع عدد الثانويات ووصل إلى 268». وخلال هذه الأيام، لم تغب النضالات والإضرابات أيضاً، إنّما لـ«أسباب تربوية» هذه المرّة، لا مادية، فكان الأساتذة يطالبون بـ«تحسين المناهج وتغييرها، وافتتاح كليّات جديدة في الجامعة اللبنانية».
يؤكّد أستاذ الرياضيات ناجي ياسين، على فكرة «الفترة الذهبية» للتعليم، ويشير إلى «اكتفائه براتب الدولة، من دون الحاجة إلى القيام بأيّ عملٍ إضافي»، وهذا ما أعطى الأساتذة «حصانةً اجتماعية، وهيبةً بين الناس، وجعلهم من قادة الرأي»، ويضيف ياسين إنّ أساتذته وزملاءه في التعليم الرّسمي كانوا «قادة الأحزاب السّياسية، والأدباء، وأساتذة الجامعة اللبنانية في وقت لاحق»، وهو ما جعل الأستاذ «بوصلة للبيئة التي يعيش فيها»، ويذكر منهم «علي شعيب الأستاذ الخريج من دار المعلّمين، وبطل عملية اقتحام بنك أوف أميركا».

وأيام الفقر
لم تدم المرحلة الذهبية طويلاً، إذ بدأت بالتلاشي في منتصف الثمانينيات، خلال عهد الرئيس أمين الجميّل، مع الانهيار الاقتصادي الأول، فـ«وصل راتب الأستاذ بداية التسعينيات إلى 60 دولاراً» يقول النقابي المتقاعد إبراهيم صالح، «إلا أنّ ما يجري اليوم أسوأ بكثير، فالخدمات وقتها كانت أفضل، والكهرباء لم تغب لأيام وأسابيع». لم تسلم التربية من الانحدار الأول، فـ«عمل الأساتذة بالفاعل، وعادوا لزراعة الدخان، وضمان الزيتون»، بحسب ياسين، الذي يستذكر أيضاً «قيام زميل له بقبض راتبه، وشراء علبتَي حليب به لابنته مطلع التسعينيات».
ولكن، رغم سوداوية أيام الحرب، «لم تمرّ ذكرى عيد المعلّم على الأساتذة في لبنان بمرارة هذه الأيام». عبارة «كلّ عام وأنت بخير» مستفزّة كثيراً للأساتذة هذه السنة، إذ أزالت الأزمة الاقتصادية حتى «احترام وتقدير الأستاذ في المجتمع»، فيروي أحد المعلّمين قول أحد ركاب «الفانات» له «الشّغل مش عيب»، عندما سأله عن عمله، وأجابه بأنّه أستاذ، أو ترك آخر مهنة التعليم الخصوصي في المنازل نهائياً، على إثر قول أُمّ أحد التلامذة له «شو مفكر معلوماتك مستوردة حتى مسعّر الحصة بالدولار».
وما لا يلاقيه الأساتذة اليوم من المجتمع، لا يجدون بديلاً له من الدولة، التي تغيّرت من ستينيات القرن الماضي إلى اليوم، إذ يترحّم نقابي على «المرحلة الشهابية، التي جعلت للأستاذ مركزاً اجتماعياً مرموقاً، بالقوانين والتقديمات المرافقة للمهنة».

متمرّنون متمرّدون
كل أيام الخير المذكورة آنفاً، يجهلها تماماً أساتذة التعليم الثانوي الذين دخلوا ملاك التعليم في الدورة الأخيرة، التي ثُبّت آخر دفعة من خرّيجيها عام 2020. هؤلاء لم يعرفوا طعماً حلواً للوظيفة العامة، يكاد يقسم أحدهم أنه «قضى وقتاً في الشوارع متظاهراً أكثر من الذي أمضاه بين صفوف كلية التربية»، هؤلاء يرون أنفسهم مظلومين من الدولة والروابط وبعض الزملاء الذين لا يزالون حتى وقت قريب ينادونهم بـ«المتمرّدين»، في إشارةٍ إلى صفة «متمرّنين»، التي يحملها الأساتذة عند تدرّجهم في كليّة التربية.