بعيد لقاء باريس الخماسي، الشهر الماضي، كان واضحاً من مجمل الحركة الديبلوماسية في بيروت تراجع الدول الخمس، تحت ضغط سعودي، عن اقتراح فرنسي سابق بتنظيم تسوية داخلية - خارجية تقوم على انتخاب سليمان فرنجية رئيساً، مقابل تكليف السفير نواف سلام تشكيل كل حكومات العهد المفترض، كمقدمة لتقاسم جديد للسلطة والنفوذ. ومع تكريس المجتمعين حق السعودية بـ«الفيتو» على هذا المرشح أو ذاك، كان هناك التزام كامل بعدم تبنّي ترشيح قائد الجيش جوزيف عون، لسببين أساسيين، بحسب الديبلوماسية المصرية: أولاً، حتى لا يقال إن الدول الخمس فشلت في إيصال مرشحها في حال تعذر انتخاب عون. وثانياً، حتى لا تحمّل هذه الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تبعات الفشل الاقتصادي والاجتماعي في حال تعذر إنقاذ البلد في السنوات المقبلة لألف سبب وسبب.في ظل تراجع واضح للدور القطري وتقدم للدور المصري، تبعه تراجع للدور الفرنسي وتقدم للدور الأميركي، كان واضحاً مع بداية الأسبوع الماضي أن هذه الدول تسيء التقدير حين تفترض أن حزب الله «مأزوم» وأن المواقف الأخيرة لأمينه العام السيد حسن نصرالله ليست سوى «نداءات استغاثة للنزول عن الشجرة» بحسب ديبلوماسيين مصريين في بيروت. في ضوء سوء التقدير هذا، بدأ العمل لتظهير الفيتو على فرنجية بعدّة العمل اللبنانية التقليدية، من بكركي إلى معراب، مروراً بأفرقاء كان موقفهم لا يزال رمادياً أو ملتبساً، مستفيدين أساساً من موقف رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. وإذا كان لقاء باريس قد خلص إلى وجود مرشحَين، يكفي وضع فيتو على أحدهما ليبقى الآخر وحيداً، أخذ المصريون على عاتقهم تحضير الأرضية ليصبح انتخاب قائد الجيش ممراً إلزامياً لأي حل. مع الأخذ في الاعتبار أن الدول الخمس كانت مقتنعة بأن هناك إجماعاً لبنانياً، يشمل الحزب، على أن الأزمة الاقتصادية لم تعد تحتمل، ولا حل لتحقيق انفراجات مالية حقيقية إلا باسترضاء السعودية، مع إمكانية الاستفادة من أجواء التهدئة العامة بين السعودية وإيران.
عند هذا الحد، خرجت مقابلة الرئيس نبيه بري مع «الأخبار» بثلاثة عناوين رئيسية:
أولاً، استباق ذروة الضغوط الخارجية عليه لتعديل الدستور برفع فيتو دستوري - قانوني، ثم سياسي، على ترشيح قائد الجيش.
ثانياً، تسمية سليمان فرنجية بالاسم كمرشح وحيد.
ثالثاً، ربط توقيت الإعلان عن ترشيح فرنجية بـ«المحاولات المبذولة لإقناع باسيل».
ومع أن رسائل بري كانت واضحة جداً، آثر المعنيّون بفهمها عدم فهمها، فجاء كلام السيد نصرالله ليوضح أكثر ثلاث نقاط أساسية:
أولاً، يقول في فقرات متعددة وبطرق مختلفة: لسنا ضعفاء أبداً، ولا مهزومين أو حتى متعبين أو نستجدي صفقة أو تسوية أو غيره؛ «لم ‏نستسلم في يوم من الأيام، وبالتأكيد اليوم لن نستسلم». وليس ما سبق سوى جزء يسير من مقاربة شاملة يسيء الديبلوماسيون الأجانب كما يبدو فهم تموضع الحزب فيها. إذ يقول الحزب، بوضوح، إنه يؤيد اتفاقاً داخلياً - خارجياً يريح اللبنانيين، لكنه لم يقل أبداً إنه يوافق على التنازل عن مكتسباته السياسية أو على إعادة عقارب الزمن اللبناني إلى عهد ميشال سليمان وفؤاد السنيورة وخوض معارك للحصول على ثلث ضامن من هنا وتمثيل وزاري حزبي مباشر من هناك. يؤيد الحزب تسوية أو اتفاقاً يريح البلد وفقاً لموازين القوى عام 2023، لا عام 2005 أو 2009، وهو ما لا تفهمه السعودية ومصر وفرنسا ربما. وخلاصة التدقيق الموضوعيّ تبين، هنا، أن في حزب الله من كان يعتقد بأن الأميركي قيّم سلباً سياسته في لبنان لجهة الحصار والانسحاب الخليجي وقرر الانعطاف، تماماً كما أن هناك في الديبلوماسية الفرنسية – المصرية خصوصاً من فهم مرونة حزب الله ضعفاً، و«سياسة الاستيعاب» استعداداً للعودة إلى الوراء، فيما الواقع يؤكد أن الفريقين يقيّمان بشكل إيجابي لا سلبي سياساتهما في المرحلة الماضية، ويقرران - كل من موقعه - المضي قدماً. الحزب يقول: لن نستسلم. والسعودية والولايات المتحدة تقولان: لن نستسلم.
ثانياً، متجنباً التطرق إلى تعديل الدستور على مقاس قائد الجيش، دخل السيّد مباشرة على خط الرد على «الفيتوات الخارجية على أي مرشح» لرفضها بالمطلق. وهو، هنا، يحاول إعادة الأمور إلى ما قبل لقاء باريس، عبر القول لهؤلاء إنه يحق لهم بالمساعدة، لكن لا يحق لهم وضع فيتو على أحد، أياً كان. وإذا كان هناك مرشحان فقط لرئاسة الجمهورية، فإن أحدهما عاجز عن بلوغها بحكم الدستور، ويبقى مرشح آخر، لا يحق لهم وضع فيتو عليه. ومن هنا يبدأ النقاش.
أربك نصر الله مخطّط الدول الخمس التي كانت تتطلّع إلى أن تأخذ بالسّلم ما عجزت عن أخذه بالقوّة


ثالثاً، يكرر الحزب ما يفترض أنه بات ثابتاً وراسخاً في مقاربة واشنطن أولاً وأخيراً: لا مكان البتة في العقل الإيرانيّ لما يوصف بالسلة الإقليمية؛ لا يمكن مقايضة ملف أو جزء من ملف بملف آخر أو جزء من ملف آخر. كررها السيد «للمرة ليس الألف بل للمرة المئة ألف». يمكن للحزب أن يكون داخلياً في موقع أقوى بكثير لو كانت التسوية الإقليمية في حسبانه، إذ يكفي أن يعطي أحد حلفائه في العراق أو اليمن القليل ليأخذ هو في لبنان الكثير، لكن هذا الذي تريده الرياض وواشنطن غير وارد أبداً، وهو ما يفترض أن يكون عاملاً مطمئناً لخصوم الحزب اللبنانيين الذين يمكن أن تضحي السعودية بهم مجتمعين في أي وقت لقاء أي مكسب في اليمن حيث لديها مشروع وطموحات بعكس لبنان. علماً أن أكثر ما تكره الرياض سماعه منذ عدة سنوات هو ما كرره نصرالله أول من أمس بأن حل اليمن عند اليمنيين لا عند حزب الله.
فيما كانت دول الاجتماع الخماسي تتحضّر لتعلن في اجتماعها القريب الثاني ما مفاده أن مرشح الثنائي الشيعي أُخرج من السباق الرئاسي، ولم يعد هناك سوى مرشح واحد هو قائد الجيش، كي يبدأ النقاش من هنا في المرحلة المقبلة، إذا بالثنائي يتعمد الهجوم بدل الدفاع، ليقول في خلاصة الموقفين إن مبدأ «الفيتو» مرفوض، وإن التعديل الدستوري ممنوع، ومن هنا يبدأ النقاش في تسوية المرحلة المقبلة. وهي تسوية يأخذ الأفرقاء الخمسة بموجبها أو يعطون في لبنان حصراً. مع تأكيد الثنائي، بلغة واضحة، أنه لن يستسلم، من دون أن يقرع في المقابل طبول الحرب أو يهدد ويتوعد، فهو لا يريد رئيساً بنصاب النصف زائداً واحداً إنما بنصاب الثلثين. وهذا ما يربك مخطط الدول الخمس التي كانت تتطلع لأن تأخذ بالسلم ما عجزت عن أخذه بالقوة، ويعيد الأمور بطبيعة الحال إلى المربع الأول... إلا إذا كانت السعودية وواشنطن تتمتعان بما يكفي من العقلانية والواقعية للتعامل مع الواقع اللبناني وفق موازين القوى الحقيقي، لا وفق تطلعات ورؤى وأحلام الموتورين في هاتين العاصمتين. وهو ما يفترض أن يقفل باب التسويات «المشقوق» ويفتح باب استمرار الفراغ «شهراً واثنين وثلاثة وسنة وسنتين وثلاثاً وأربعاً إذا بقينا واقفين مكاننا»، كما قال نصرالله أول من أمس.