ملامح باهتة، بطن منتفخة، وأطراف متورمة، هكذا تبدو سميرة أبو حمدان جالسة على الأريكة بعد جلسة علاج من السرطان، وفي انتظار موعد الجلسة الثانية. «لا أستطيع الوقوف لاستقبالكم»، تعتذر. وتستعيد شريط الـ 69 عاماً، هو ذاته الكتاب الذي غنّى له الراحل حسن الأسمر: «كتاب حياتي يا عين، ما شفت زيّو كتاب، الفرح فيه سطرين والباقي كله عذاب»، تسخر، ذلك أنه لا أحد تعذّب كما تعذبت هي، على الأقلّ هذا ما تؤمن به.
خطف الزوج
بدأت قصة سميرة عام 1976 عندما اختفى زوجها محمد نصر الله، بينما كان مع شقيقها في بلدتها تعلبايا يحضّران لإصدار جوازات سفر طمعاً بحياة آمنة في أوستراليا. لم ينجحا في الهروب، سحبتهما الحرب الأهلية إلى نفق المفقودين المظلم. كانت سميرة ابنة الـ 22 عاماً آنذاك، عروساً تفقد حبيبها. عبثاً، بحثت عنه بين تعلبايا وبلدته شمسطار.
مضى الكثير من الوقت على الحادثة، والمرض والعمليات الثلاث التي أجرتها في رأسها تنهك ذاكرتها، وتفقدها الكثير من اللحظات، لكن لا شيء يمحو التاريخ، الآلام حاضرة في ذاكرتها، وتسعفها شقيقتها لإطلاق العنان لها. ظلت سميرة 25 عاماً مخلصة لزوجها. لم تقطع الأمل من عودته، لطالما تخيّلته يطرق الباب، يطلّ من سيارة مارّة، يحضر بين الجموع... ثم أُجبرت بعد 25 سنة من غيابه على طلب الطلاق الغيابي منه لتنتقل إلى نفوس والدها المتقاعد من وظيفته الحكومية لتحصل على الطبابة، من دون أن تقتل هذه الخطوة «حبي الأزلي له».

«يريدون أن يسرقوني»
بعد غياب الزوج، انتقلت سميرة وابنتها رانيا، التي كانت تبلغ من العمر 4 أشهر، للعيش في كنف والدها، برفاهية، حيث امتلكت سيارة وخصّص لخدمتها سيدة. لم يكن ينقصها غير عودة زوجها الذي انتظرته ورفضت الزواج بعده. طوال 7 سنوات لم يكن هناك أية مشاكل مع أهل الزوج الذين أعربوا عن عدم قدرتهم على الإنفاق على حفيدتهم.
ذات يوم ربيعي مشمس من شهر أيار، خسفت الشمس ولم تعد، هبّت رياح عاتية غيّبت الربيع كما غيبت والده. زارت سميرة أهل الزوج في منزلهم في شمسطار برفقة ابنتها، ورجعت من دونها، ترافقها وحدتها من عام 1982 إلى اليوم. ليلاً، طلبت الطفلة من أمها مغادرة بيت جدها «لأنو بدّهم يسرقوني»، فلم تكترث الأم لتخيلات «طفولية بريئة»… صباح اليوم التالي، طلبت العمة من سميرة أن تصطحب رانيا للتسوّق، فوافقت. مضت ساعات ولم تعد صغيرتها، وعندما سألت عنها، كان جواب العائلة صادماً «ذلك أنهم خططوا سراً ولم يظهروا أي نيات خبيثة»، قالوا لها: «انسِ ابنتك كأنك لم تنجبيها»، مثل مسلسل خرافي، مفعم بالمبالغة. صرخت الأم فلم يسمعوا، بكت وانهارت عصبياً فأتوا لها بطبيب وهم يعرفون أنها لا تحتاج إلى أمصال وأدوية. أخفوا «العلاج». توسّلتهم وبعدما «فقدت الأمل من إنسانيتهم، عدت إلى بيتي وحدي مفجوعة، لا أفهم ماذا حصل، ولا لماذا، فخمّنت: هل لأنني أتيت بزوجي إلى بلدتي تعلبايا يوم خطفه ولم نذهب إلى شمسطار؟»

كيف مرت السنوات؟
لم تكن مسألة وقت، استمرّ الظلم حتى يومنا هذا. «طرقت باب الشرع فأنصفني السيّد الشهيد عباس الموسوي قائلاً إنه يحق للأم حضانة أولادها بغياب الأب. حتى القضاء والأمن وقفا في صفي، لكن كلما توجّه العناصر ليأخذوها كانت العائلة تخفيها. لك أن تتخيل كيف مضت هذه السنوات، ولا تزال». ما عادت رائحة رانيا تعبق في ثيابها لتعزّيها، ولا عادت الألعاب التي تركتها تنفع بعدما كبرت وصارت شابة. الصور توقفت عند سنّ السابعة، والزمن يمضي فوق شوقها وحنينها، يحمل «مآتم» عيد الأم، ودموعاً في الأفراح والأتراح. كل خبر عن رانيا التي تخرّجت من الجامعة وصارت معلمة، تزوّجت، تطلّقت، فتزوجت ثانية، يحيلها إلى حرمانها الأول. يوم عرسها «هناك من سرّب لي صورها، كبّرتها وعلّقتها على الحائط».
عدا ذلك، حاولت سميرة مراقبة رانيا من بعيد، فكانت تزداد شقاءً. لبست ذات مرة ثياباً رثة واصطنعت دور المتسوّلة لتدخل سراً إلى شمسطار من دون أن يعلم أهل الزوج بذلك. دخلت بيت الجارة واسترقت النظر إلى ابنتها من الشرفة. كانت تريد فقط أن ترى كيف أصبح شكلها بعد كلّ هذه السنوات، وكان لها ما أرادت.
هنا ما عادت قادرة على تمالك نفسها، انهارت بالبكاء، «ماذا أقول بعد، الجرح عميق». تروي كيف وقفت منذ سنتين في عزاء عمتها من بعيد تترقب مرور رانيا، حتى رأتها، «هذه ابنتي تشبهني، كبرت كثيراً»، قالت باندفاع، «ركضت إليها وحضنتها فلم تكترث، كان موقفها بارداً جداً، ومؤذياً في آن»… رغم ذلك، عندما دخلت سميرة غرفة العمليات وخرجت منها «هدست بها، هي وحدها، ابنتي، ماذا أفعل».

لماذا ترفضني؟
انتظرت سميرة ابنتها لتكبر خلف باب موصد. ظنّت أنها عندما تتحرّر من سلطة أهل جدّها الذين أخذوها عنوة ستسمع الحقيقة وتعود إلى أحضان والدتها. لكنها، «رفضت رؤيتي أكثر من مرة وبكامل إرادتها، وقسا قلبها كثيراً إلى حدّ لم تكترث فيه لطلبي لها وأنا على فراش الموت، رغم علمها بأني أصبت بالسرطان». تشعر سميرة بالأمومة تلحق الأذى بها، نعم، تؤلمها قساوة الابنة وكيف لفظتها من حياتها، إلغاؤها الذي لا يتوقف، ولا يبرّر.
لبست ذات مرة ثياباً رثّة واصطنعت دور المتسوّلة لتسترق النظر إلى طفلتها


دوامة من الأسئلة لا تجد لها إجابات: «هل جعلت الحياة بلا أم ولا أب ابنتي أكثر خشونة؟ لماذا ترفضني؟ ماذا قالوا لها؟ هل أوهموها أنني تركتها؟ وأنه لو اخترتها لقبلت العيش معها أينما كانت؟ هل حمّلوني وزر اختفاء والدها؟ أم أنها لم تفهم لماذا طلبت الطلاق غيابياً؟

«يا ريت لو بتجي»
تسابق سميرة الموت، وكلّ أملها أن تعرف ابنتها الحقيقة. منذ سنة، صدمت بكتلة في أمعائها. وبعد تلقي العلاج اكتشف الأطباء أكثر من كتلة خبيثة في الرأس، استدعت إجراء عمليات جراحية وجلسات من العلاج الكيماوي والشعاعي.
اليوم، يتفشّى «الخبيث» في أنحاء جسدها، ولا يشفع لها عند ابنتها. لو عاد الزمن إلى الوراء، لـ«ساعدت أكبر عدد من الناس بشتى الطرق»، علماً أنها بحسب شقيقتها ناهية «لم تقصّر، أمضت 30 عاماً من حياتها في الأعمال الخيرية من جمع التبرعات للفقراء والمساكين ولشراء الأكفان وفي غسل الموتى، وخدمة المساجد، لذلك القرية كلها تدعو للحاجة سميرة بالشفاء».
لا تخاف سميرة من الموت، لكنها تخاف مما سيحصل مع والدتها العجوز بعدها. «لم أقصّر في خدمة والدي، لذلك آخر ما قاله بينما كانت روحه تفارق جسده: الله يرضى عليك، عذبتك معي». تريد أن تؤدي «المهمة» مع والدتها أيضاً. ماذا عن ابنتها؟ «ما عاد أي شيء يستحق، لا أسامحها»، ثم يطرق قلب الأم طرقاته المتسارعة، وتصحّح: «إذا جاءت أسامحها، يا ريت لو بتجي».