كشفت قضية خطف الشيخ أحمد شعيب الرفاعي وقتله عن جريمة أعمق قوامها التخاذل والتهاون الأمني والقضائي والفساد السياسي. كثر، شاركوا في جريمة قتل الرفاعي الذي قال لـ«الأخبار» عام 2019 إن بلدة القرقف «تعاني الإرهاب السياسي والمالي والاجتماعي والأمني، حيث هناك دولة ضمن الدولة تابعة لرئيس البلدية يحيى الرفاعي». وهو ما كشفته بالفعل الجريمة التي خُطّط لها بدم بارد، وعن سابق إصرار وتصميم، وكادت تؤدي الى فتنة في الشمال ولبنان، بعدما حُمّلت أبعاداً سياسية ومذهبية استثمرت فيها الجهات التابعة للخط السياسي نفسه الذي حمى رئيس البلدية المتهم بالتخطيط للجريمة وأمّن له الغطاء على مدار سنوات، ثم حاول استخدام الجريمة لتفجير البلد عبر توجيه أصابع الاتهام الى الجيش اللبناني والأمن العام والنظام السوري وحزب الله، مهددين بالتسلح تحت شعار «المظلومية السنية»، وجرّوا معهم مشايخ هدّدوا بالتصعيد داعين إلى عدم الاستخفاف بعمائمهم!
قرّر الجميع القفز فوق كل الأسباب العائلية والخلافات القديمة (وقد يكون بعضهم معذوراً بعدم تصديق أن خلافاً عائلياً يمكن أن يقود إلى مثل هذه الجرأة على القتل)، علماً أن الشيخ أحمد الرفاعي لم يكن يقاتل بلسانه فقط، بل وثّق عشرات المذكرات والدعاوى والأحكام التي لم تنفّذ، وتنقل بها بين الوزارات والجهات التي يفترض أن تسهر لحماية المواطنين وإحقاق الحق، لكنه كان يصدم بمدى الفساد المستشري في الإدارات ومؤسسات الدولة الأمنية والقضائية.
قرّر كثيرون التعامي عن ذلك وكادوا يدفعون البلاد إلى «حفلة دم»، رغم أن الجميع يعلم أن أواصر القرابة بين أهالي البلدة النائية (غالبيتهم من آل الرفاعي) لم تحل يوماً دون احتدام الخلافات ووصولها إلى حد الاعتداء بالضرب والتهديد بالقتل وحرق سيارات. إذ يتهم عدد من أبناء البلدة رئيس بلديتها، منذ عام 2010، بهدر المال العام والإثراء غير المشروع وتحويل المشاريع العامة الى استثمارات خاصة، فضلاً عن بيع مشاعات البلدة، وهو الملف الأهم الذي فجّر الخلافات بين أكثر من طرف في البلدة عام 2012، عندما سطّر عدد من أبناء البلدة شكاوى عدة ضد الرفاعي بتهمة التعدي على الأملاك العامة، وتحويل 10 عقارات من ملك جمهوري الى ملك بلدي من دون موافقة مجلس الوزراء، ثم بيعها الى أهالي البلدات المجاورة (وادي الجاموس، ببنين، طرابلس...) الذين شيّدوا أكثر من 150 منزلاً فوقها. كما أن الشيخ أحمد الرفاعي ادّعى عام 2019 أمام وزارة الداخلية والبلديات والتفتيش المركزي والهيئة العليا للتأديب، طالباً التحقيق مع رئيس البلدية حول أسباب «كسبه المادي بصورة فاحشة»، وخصوصاً أنه كان موظفاً في دائرة الأوقاف الإسلامية في عكار قبل فصله عام 2009. وجاء الرد بإحراق سيارة الشيخ أحمد الذي أكد لـ«الأخبار» في 17 حزيران 2019 أن كاميرات المراقبة في المنطقة وثّقت الحادثة والتقطت المعتدين»، محذّراً من «التدخل لوقف الملاحقات أو تضليل التحقيق، ولا سيما أن الحادثة ليست الأولى من نوعها».
لم يتوقف الشيخ القتيل يوماً عن مواجهة انتهاكات رئيس البلدية، وفشل في انتخابات 2016 في منع إعادة انتخابه الى رئاسة البلدية مجدداً، وكان واضحاً أن الأمور تغلي في البلدة مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي المقبل.
كل هذا جرى التعامي عنه لمصلحة توجيه الاتهامات كيفما اتفق. وهذا ما يجعل الجميع شركاء في الجريمة، كلٌّ بمقدار: القوى الأمنية التي لم تبادر الى تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة بحق رئيس البلدية؟ والنيابة العامة المالية التي جمّدت قضيته بضغوط سياسية بعدما كفّت وزيرة الداخلية ريا الحسن يده وأحالته ‘إلى القضاء، والغطاء السياسي الذي يؤمّنه سياسيون ونواب ما يسمح للرفاعي الذي يحمل بطاقات تسهيل مرور بالتجول في سيارات «مفيّمة»، وأخيراً مشايخ عكار العالمون بحقيقة الأمور والذين ارتضوا أن يكونوا شهود زور والتزموا الصمت أمام كل الانتهاكات التي يعرفونها، والذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها لدى توقيف شيخ للتحقيق معه، معتبرين الأمر استهدافاً لعمائمهم، وهو ما كان يتحصّن به يحيى الرفاعي.