لم تكد ساعات صباح أمس تنبلج في مدينة الميناء، حتى كانت أزقتها تزدحم شيئاً فشيئاً بمئات المواطنين الذين احتشدوا فيها لإحياء «الزامبو»، وهو الاسم الذي يُطلق على مهرجان اعتاد مواطنون في الميناء أن ينظموه سنوياً في مثل هذه الأيّام من كلّ عام، وتحديداً في يوم الأحد الأخير الذي يسبق «الصوم الكبير»، أيّ آخر أيّام المرفع عند الطوائف المسيحية التي تتبع التقويم الشّرقي. التقليد الذي تعيشه الميناء منذ قرابة 100 عام، لم يتوقف تنظيمه إلّا لسنوات قليلة إبّان الحرب الأهلية 1975 ـ 1990، وخلال فترة الحظر التي رافقت تفشّي فيروس كوفيد ـــ 19 قبل عامين.التحضيرات للمهرجان تستغرق عادة أيّاماً عدّة من المنظّمين، وهي تكتمل في جزء كبير منها في الليلة التي تسبق انطلاقه، حيث تبدأ بطلي المشاركين أجسادهم العارية بألوان سوادء وبيضاء وفضيّة وذهبيّة، وارتدائهم ملابس قديمة وغريبة، مثل تلك التي يرتديها الأفارقة في رقصاتهم وحفلاتهم، أو أزياء الفراعنة، يضعون الريش على رؤوسهم، ويحملون رماحاً من الخشب تشبه التي يستخدمها المقاتلون الأفارقة القدماء، أو حتى مقاتلو الهنود الحمر، فضلاً عن أقنعة من مختلف الأشكال والألوان، قبل أن يبدأ المهرجان، قرابة السابعة صباحاً، بالرقص وعلى وقع الطبل والزمر والغناء والهتاف والصراخ: «يلا وهو. زامبو»، بطريقة تشبه إلى حدّ بعيد الاحتفال بـ«الكرنفال» الذي تشهده المدن البرازيلية كلّ عام.

الاغتسال في البحر
من مختلف المناطق والأعمار والطوائف أتوا للمشاركة في المهرجان أو مشاهدته، وإن تراجع عدد القادمين من خارج الميناء بسبب كلفة النقل من الميناء. وعاشت الأزقة القديمة في الميناء أكثر من 3 ساعات من الاحتفالات، قبل أن تنطلق من وسطها، بعد انتهاء قدّاس الأحد، مسيرة راجلة وسط هتافات ردّد المشاركون فيها «زامبو. زامبو»، وصولاً إلى كورنيش الميناء حيث قاموا برمي أنفسهم في مياه البحر من غير أن تردعهم برودتها، في تقليد يُقصد منه ـ مادياً ـ غسل أجسامهم من الدهان الذي طلوا به أنفسهم، ومعنوياً التطهّر من الذنوب، وفق معتقدات بعض القائمين عليه والمشاركين فيه.
مهرجان ينظمه أتباع التقويم الشرقي في يوم الأحد الذي يسبق الصوم الكبير


ومع أنّ التكلفة المالية لتنظيم المهرجان لم تكن تشكّل في السّابق هاجساً عند المنظّمين، إلّا أنّه بعد انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، فإنّ هذه التكلفة التي تُقدّر بنحو 2000 دولار بات يُحسب لها اليوم ألف حساب. ومع ذلك، فقد استطاع المنظّمون تجاوز هذه الأزمة، سواء من خلال التبرّعات، أو الاستعانة ببعض التجهيزات من السّنة الماضية وقبلها، ما ساعد في تخفيف التكلفة، إضافة إلى التقليد الذي يقوم به أمين سرّ المهرجان، أو من ينوب عنه، بحمل «تنكة» يجول بها على المشاركين فيه بهدف جمع التبرعات منهم، أو من مواطنين يرمون إليه التبرعات من فوق شرفات منازلهم التي تطلّ على موقع الاحتفال والمسيرة التي تجول أزقة وأحياء المدينة.

أصول برازيلية أم لبنانية؟
ومع أنّ مهرجان «الزّامبو» شهد في السّنوات الأولى من تنظيمه موقفاً سلبياً من قبل الكنيسة الأرثوذكسية، التي اعتبرته «بدعة» ولا يمتّ بصلة إلى طقوس الصوم والمعتقدات المتعلقة به، ورفضت المشاركة فيه، فإنّها في المقابل لم تقف بوجهه، بل نظرت إليه على أنّه نشاط اجتماعي وفنّي وثقافي، بات جزءاً من فولكلور الميناء وتقاليدها الشّعبية الذي يستقطب الأضواء إليه كلّ عام، برغم تضارب مواقف عامّة المواطنين منه، بين مؤيّد له يعتبره «مهرجاناً للفرح ينتظره أهل الميناء من عام إلى آخر»، وبين رافض وداعٍ إلى «وضع حدّ له»، معتبراً أنّه «خروج على العقل والدّين والذوق والآداب العامّة».

(الأخبار)

لكن رغم حرص المنظّمين على إقامته سنوياً، إلا أنّه لا تاريخ محدّداً لديهم عن أول مهرجان «زامبو» شهدته الميناء، ويوجد شبه توافق على أنّه يعود إلى أكثر من 100 سنة على أقلّ تقدير، وتحديداً بعد الحرب العالمية الأولى، وسط تضارب في الآراء والمعلومات ينسحب كذلك على من جاء بفكرة الاحتفال به. يقول أحد منظّمي المهرجان من آل عساف إنّه «انطلق في المدينة مع عودة بعض مهاجريها من البرازيل، الذين حملوا معهم طقوس مهرجانات كرنفالات مدينة ريو دي جانيرو وغيرها»، مضيفاً أنّه «خلال فترة الوجود الفرنسي والسنغالي في الميناء، خلال الحرب العالمية الثانية، تعزّز حضور المهرجان الذي تحوّل إلى تظاهرة شعبية وثقافية». غير أن منظّمين آخرين من آل أروادي يقولون إنّ «الزامبو هو تقليد شعبي أخذه معهم أبناء الميناء إلى البرازيل خلال هجرتهم إليها، قبل الحرب العالمية الأولى، وأنّ جذوره تعود إلى أصول يونانية قديمة، حيث نقلت جاليات يونانية سكنت في الميناء قبل قرون هذا التقليد إليها، ولا تزال هناك بضع عائلات تعيش في الميناء تعود جذورها إلى اليونان».