تتزايد المؤشرات التي تدل إلى ارتفاع نسبة مدمني المخدرات والكحول في لبنان. ولا يمكن تحديد أعداد المدمنين والمتعاطين، بينما تبيّن لنا أن بعض دوافع تناول المخدرات مرتبط بالأوضاع المعيشية الخانقة وبالتوتر السائد على جميع المستويات وفي معظم القطاعات الحيوية. تنتشر المخدرات بكثرة بين الناس وخصوصاً بين الشباب والمراهقين وهي في متناول اليد وغبّ الطلب (من خلال "الدليفري"). إضافة إلى رداءة نوعيتها، يضاف إليها "أدوية الأعصاب" التي تباع في الصيدليات لأغراض طبية ويساء استخدامها. أما المخدرات "الشرعية" كالحكول والتنر والبنزين فحدّث ولا حرج.. كل ذلك في ظل نقص حاد في العلاج الذي لا يُعد حاجة للمدمن فحسب بل حق من حقوقه التي كفلها القانون والتشريعات الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان. وبكل أسف، إن أعداد مراكز التأهيل لا تتعدى عدد أصابع اليد. حوالي 1000 مريض (مدمن سابقاً) يستفيد من العلاج بالأدوية البديلة من وزارة الصحة، في ما يقبع 2750 سجيناً وموقوفاً في السجون والنظارات بتهم ودعاوى مخدرات (تعاطي، اتجار، ترويج)، وهناك أعداد كبيرة من المدمنين والمتعاطين لا نعرف عنهم شيئاً ومن بينهم الأكثر ضعفاً.. أولئك الذين يريدون أن يتخلّصوا من المخدرات والكحول و"أدوية الاعصاب" ولا يتوفر العلاج لهم..
يشدد الطبيب المتخصص بالصحة النفسية والعقلية والاختصاصي في علاج الإدمان الدكتور داني خلف على "ضرورة أن يخضع المدمن لعملية تأهيل بعد عملية تنظيف الجسم (detox)، فهي خطوة أساسية لإتمام العلاج والتخلص نهائياً من المخدرات". إلا أن المشكلة تكمن في"قلة مراكز التأهيل مقارنة بأعداد المدمنين، وارتفاع كلفة العلاج في المستشفيات، يضاف إلى ذلك الحرج الاجتماعي الذي يمنع البعض من الدخول إلى المراكز العلاجية. عندما يفشل العلاج، تكون الخطوة الأخيرة اعتماد العلاج البديل للتخلص من المخدرات".

2750

هو عدد المحكومين والموقوفين في قضايا المخدرات (تعاطي، ترويج، اتجار) في السجون اللبنانية من أصل حوالي 8300 محتجز، مما يعني أن أكثر من ثلث الموجودين في السجون هم على علاقة بالمخدرات بشكل أو بآخر. بحسب رئيس لجنة السجون في نقابة المحامين جوزيف عيد، فإن هذه الأعداد في ازدياد، "هناك تشديد على قضاة التحقيق لعدم توقيف الشباب في حال التعاطي، يتم التواصل مع أهلهم وإذا كان الأمر مقتصراً على التعاطي يُعالج الأمر من خلال تعهد ولا يتم توقيفهم".


"لاحظت إنه تصرفاتها غريبة وهي عم تطلب مني طول الوقت مصاري. حاولت إسأل شو عم بصير، وعرفت لاحقاً إنها عم تتعاطى حبوب مخدرة مع رفقاتها. صدمتي كانت كبيرة بس الحمد لله اقتنعت معي بالعلاح وبلشنا مشوار سوا وبقيت جنبها. اليوم هي أحسن بس بدها وقت حتى ترجع متل ما كانت"، تشرح إحدى الأمهات تجربتها مع ابنتها (17 سنة) التي تخوض اليوم تجربة العلاج من الإدمان على المخدرات. واكبت الأم علاج ابنتها بشكل يومي ولا شك أن ذلك زاد من فرص نجاح علاجها. لكن ماذا ينفع حرص الأم مع عدم توفر مركز للعلاج واختصاصيين في إعادة التأهيل، أو عدم قدرة المراكز الموجودة على استيعاب العدد المتزايد من طالبي العلاج؟ وماذا ينفع حرص الأهل إذا كانوا غير قادرين على تسديد كلفة العلاج في ظل الأوضاع المعيشية الضاغطة؟
"صعبة تلاقي ابنك غرقان بالإدمان، مش قادر تساعده حتى يخلص منه، ما معك مصاري تكفّي العلاج، ولا قادران تأمّن مكان يتعالج فيه، كل يوم عن يوم بشعر أنه حالته أسوأ. قبل كان يستحي يقول إنه بيتعاطى، بس هلّق ما عاد تفرق معه، صار يبعد عن الناس، ما عاد عنده سبب للحياة، ترك درسه وما عاد بدو يعمل شي"، يشكي والد أحد المدمنين تجربته المريرة، بينما تمرّ الأيام وهو يشاهد ابنه العشريني يذبل وينهار أمامه.
حلا (25 سنة) حامل في الشهر الثامن، تتعاطى مادة الهيروين بمعدل مرتين يومياً، بدأت تتعاطى المخدرات منذ سنتين «من أجل أن تنسى همومها» هكذا أقنعها زوجها المدمن وأرغمها على التعاطي لـ«تخفيف التوتر». تقول حلا "زوجي اليوم في السجن بتهمة تعاطي والاتجار بالمخدرات. أعيش مع والدتي المسنة وأنتظر بعد أقل من شهر مولودي الأول. أنتظره بخوف لا أعرف إذا كان سيولد بصحة جيدة، حاولت أن أتعالج مرات عديدة ولكني فشلت، لا أملك المال لتكرار العلاج وأشعر بالحرج الشديد من الدخول إلى مركز للتأهيل".
محمد (33 سنة) أب لطفلين، مدمن مخدرات، يتعاطى حبوب الكبتاغون منذ أكثر من 10 سنوات، يقول "أنا ما بتعاطى كميات كبيرة، بس باخد شوي حتى شيل حالي" (مصطلح يبدو متعارف عليه بين المدمنين). وحول التكلفة المادية التي يسددها للحصول على المخدرات، يقول "قد ما معي مصاري بجيب، بضل فيك تزبّط الوضع، بجيب بـ 300 ألف كيس صغير".
تجربة سمر(45 سنة) مختلفة فهي مدمنة من نوع آخر. تجاهر وتقول "ما حدن بيطالني"، فهي مدمنة كحول. تشرب سمر الكحول منذ أكثر من عشرين عاماً، وتعتبرها ملاذها للـ"هروب من ضغط الحياة ومشاغلها". وتتابع "عادة بشرب بالليل حتى أقدر نام نوم عميق، ما حدن إلو عليي، أقل شي بهيدا البلد نشرب حتى ننسى".

العلاج ليس سهلاً
"المخدرات لم تعد حكراً على الكبار، إذ بات الأطفال أيضاً والمراهقون يتعاطون المخدرات، إناثاً وذكوراً، ومن مختلف طبقات المجتمع" يوضح الدكتور داني خلف. فتعاطي المخدرات أصبح ظاهرة منتشرة بشكل واسع في مجتمعاتنا ولا بد من تحديد الأسباب التي تساعد في تفشي هذه الظاهرة، في مقدّمها الضغوطات النفسية والتفكك الاجتماعي والوضع الإقتصادي الصعب. يلفت خلف إلى أن "هناك أطفال بعمر 14 سنة يترددون إلى العيادات الخاصة للعلاج، يصطحبهم أهلهم بعد ملاحظة تغييرات واضحة في تصرفاتهم في البيت وازدياد طلبهم للمال بطريقة غير مفهومة". وتختلف برأي خلف أسباب الإدمان بين الصغار والكبار، "فالصغار غالباً، يخوضون ذلك بدافع الحشرية والتجربة. أما الكبار، فبهدف تحصيل المتعة واللذة والهروب من الواقع". الاكتئاب، بحسب خلف، قد يكون حجة للتعاطي والإدمان أو قد يصاب به المدمن خلال العلاج وبعده.

60$

الحد الأدنى لكلفة ليلة واحدة في المستشفيات لتلقي العلاج، وقد تبلغ 600$ في المستشفيات الخاصة


يشرح الطبيب المتخصص بالصحة النفسية وعلاج الإدمان الدكتور فضل شحيمي، طبيعة المواد المخدرة الأكثر رواجاً اليوم في لبنان، وأهمها: القنب الهندي (الحشيش)، الهيروين، حبوب الكبتاغون، الكوكايين، الفري بَيْز. مشيراً إلى أن "أنواع المخدرات لا تعمل جميعها بنفس الطريقة، منها ما هو مثبط للجهاز العصبي مثل: الهيروين، ومنها ما هو منشّط للجهاز العصبي مثل: الكوكايين والكبتاغون. أما الحبوب (تعرف بـ"أدوية الاعصاب") الأكثر رواجاً والمتوفرة في الصيدليات والتي يؤدي تعاطيها إلى الإدمان فهي: ريفوتريل وترامادول وبنزكسول وبريغابالين.
وحول العلاج الذي يتلقاه المدمن، يشير شحيمي إلى أن "العلاج ينقسم إلى قسمين، القسم الأول يطلق عليه فترة تنظيف الجسم (ديتوكس Detox) على مدى 10 أيام، تكون غالباً في مراكز مختصة بالعلاج، حيث يتم تنقية الجسم من المواد المخدرة، ويصاحبها عوارض انسحاب (سد الشهية، توتر، ألم وأوجاع). ويوصف الطبيب خلال هذه الفترة من العلاج مسكن يخفف من العوارض والآلام.
بعد انتهاء فترة ال«ديتوكس»، تبدأ عملية تأهيل المدمن من خلال جلسات مع معالجين نفسيين وأطباء متخصصين بعلاج الإدمان. ويتابع شحيمي: "هناك مراكز تعنى بعملية التأهيل ولكن أعدادها قليلة مقارنة بعدد المدمنين، ويُعدّ احتضان المدمن من قِبل عائلته ومحيطه جزءاً أساسياً من العلاج". ويختم بالإشارة إلى أن: "كل شي ارتفع سعره بشكل كبير إلاّ أسعار المخدرات. فهي لا تزال في متناول اليد، وهناك نوعيات رديئة ورخيصة من المخدرات متوفرة بكثرة وسهلة الوصول رغم كل الموانع القانونية".

تخفيض نسبة دعم العلاج
يُعرَّف العلاج البديل للمخدرات بأنه الإعطاء تحت إشراف طبي لمادة ذات تأثير نفسي موصوف، مرتبطة دوائياً بالمادة المنتجة للاعتماد، للأشخاص الذين يعانون من إدمان المواد، لتحقيق أهداف علاجية محددة. هو شكل من أشكال الرعاية الصحية لمدمني الهيروين والأشخاص الآخرين المعتمدين على الأفيون، إذ يستخدمون ناهضات أفيونية موصوفة، والتي لها خصائص مماثلة أو متطابقة للهيروين والمورفين على الدماغ والتي تخفف من أعراض الانسحاب وتمنع الرغبة في تناول المواد الأفيونية غير المشروعة.
بالأرقام وبحسب المعلومات المتوافرة، إن عدد المرضى (المدمنين) الذين يتعالجون بالعلاج البديل، بلغ نحو 1000 شخص تقريباً في لبنان، يتوجهون أسبوعياً بموجب وصفة طبية (من قِبل الطبيب المعالج في إحدى الجمعيات أو في عيادته الخاصة) إلى المستشفيات الحكومية (مستشفى ضهر الباشق، مستشفى رفيق الحريري، مستشفى الهراوي في زحلة)، حيث يستلمون الدواء وهو عبارة عن ظرف يحوي 7 حبات، بمعدل حبة يومياً لمدة أسبوع واحد.
على مدى 10 سنوات كانت وزارة الصحة تؤمن الدواء بشكل مجاني، إلى أنه ومنذ فترة بدأت الوزارة بتخفيض نسبة دعمها لهذه الأدوية، وهي لغاية إعداد هذا المقال تدعم تكلفة الدواء بنسبة 65%، وبحسب أحد المستفيدين من العلاج "تبلغ القيمة التي يدفعها كفرق لشراء الدواء البديل 700 ألف ليرة لبنانية أي 100 ألف عن كل حبة يتناولها يومياً".

تبلغ القيمة التي يدفعها كفرق لشراء الدواء البديل 700 ألف ليرة لبنانية أي 100 ألف عن كل حبة يتناولها يومياً


وهناك تخوف جدي من رفع الدعم نهائياً عن أدوية العلاج البديل، إذ يشاع في أوساط وزارة الصحة العامة أن هذه الخطوة ستكون تدريجية على مدى الأشهر الأربعة القادمة بهدف تسهيل استيراد الأدوية البديلة. فالوزارة لم تعد قادرة على دعم الدواء في ظل الارتفاع الجنوني للدولار، وما بين "رفع الدعم عن الدواء" أو "عدم توفر الدواء"، قد تختار الوزارة أن ترفع الدعم وتعمل على تأمينه للمرضى القادرين على تسديد ثمنه بدل من فقدانه نهائياً. خاصة بعد سلسلة الاجتماعات التي عقدتها الوزارة مع الجمعية اللبنانية للطب النفسي، التي رفعت كتاباً للوزارة يتضمّن في أحد بنوده رفع الدعم عن الدواء البديل من أجل ضمان استيراد الكميات الكافية للمرضى، مع العلم أن هذه الأدوية لا يمكن الحصول عليها من خلال الهبات بل عبر طرق مقوننة، وتتم عملية الاستيراد من خلال عقد تبرمه الوزارة سنوياً مع وكيل وفق أطر ومعايير دولية.
إذا كانت أدوية العلاج البديل تهدف إلى الحد من فرص الانتكاس لدى من كان مدمناً على المخدرات، وتساعده على تحسين آدائه الشخصي والاجتماعي والعائلي بشكل عام، فماذا سيحل ب 1000 إنسان يتلقون العلاج البديل بعد رفع الدعم نهائياً عنه، هل سيضافوا إلى سجلات المدمنين مجدداً؟

عجز الجمعيات
تحت وطأة الوضع الاقتصادي المأزوم، تصبح الجمعيات التي تقدم خدماتها المجانية لعلاج الإدمان، وجهة لعدد كبير من المدمنين الذين يحتاجون إلى علاج وتأهيل ومتابعة، نتيجة عدم قدرتهم على دفع المال لتحصيل هذه الخدمات من المراكز والعيادات الخاصة. "المشكلة أن عدد المرضى المدمنين على المخدرات، أكبر بكثير من قدرة الجمعيات الاستيعابية، كما أن عدد الكادر الطبي من أطباء ومعالجين نفسيين وإداريين محدود في الجمعيات، الأمر الذي يجعل أعداد كبيرة تنتظر أشهر على لوائح الانتظار" تقول المديرة التنفيذية لجمعية سكون تاتيانا سليمان، مشيرةً إلى أن "الجمعية تستقبل في مراكزها الثلاثة في بيروت، بعلبك (دورس)، وطرابلس( أبي سمرا) نحو 600 مدمن مخدرات سنوياً، تقدم لهم العلاج النفسي والتأهيلي من خلال عياداتها الخارجية". وفي ما يتعلق بفترة العلاج تلفت سليمان إلى أنها "تتراوح بين ستة أشهر إلى سنة أو سنة ونصف حسب طبيعة المادة التي يدمنها المريض".
وحول استمرار الجمعية في عملها في ظل الوضع الاقتصادي الحالي، تشير إلى وجود "محاولات تقوم بها الجمعية لتأمين منح ودعم للجمعية حتى تستمر" والمشكلة الأكبر برأيها: "النقص بالدواء الذي يعالج من الأفيونيات، إذا في دعم للدواء بس مش متوفر، وإذا أصبح متوفراً فلن يكون بمتناول المدمنين الراغبين بالعلاج والتخلّص من المخدرات".

العلاج حق
يرصد المحامي عماد المصري تنامي أعداد المتورطين في قضايا المخدرات في الآونة الأخيرة، مشيراً إلى أن القانون رقم 673/1998 المتعلق بالمخدرات والمؤثرات العقلية والسلائف أعطى الحق "لكل مدمن على المخدرات قبل إجراء أي ملاحقة ضده أن يتقدم تلقائيا أمام لجنة مكافحة الإدمان على المخدرات المنصوص عليها في المادة 199 من هذا القانون، طالباً إخضاعه لتدابير العلاج الجسماني والنفساني من مرضى التعاطي. ويوقع تعهداً بذلك حيث يكون له الحق في هذه الحالة بإخفاء هويته إلا لأشخاص ملزمين بسر المهنة وعدم ملاحقته إذا تابع العلاج واستمر فيه حتى استحصاله على شهادة تثبت شفاءه التام من التسمم الإدماني والاعتياد الجسماني وتخلصه من الارتهان النفساني لعادة التعاطي (المادة 183 من القانون).
ويشير المصري إلى أن "للمحكمة تبعاً لظروف القضية أن تمنح المدمن وقف التنفيذ إذا لم يكن مكرراً أو تعليق وقف تنفيذ العقوبة على قبوله اللاحق بالخضوع للعلاج والسير فيه حتى الشفاء ولا يستأنف تنفيذ العقوبة. إن المحكمة التي أصدرت الحكم هي التي تقرر وقف تنفيذ العقوبة نهائياً بعد أن تبلغها لجنة مكافحة الإدمان بشفائه التام من مرض التعاطي" (المادة 197 من القانون).