تزوجت جنى الشاب الذي أحبّته لسنوات، وبنَت معه مؤسستها العائلية بتعب وجهد مشتركين، ورزقا بطفلة سمّياها ريما، وتبيّن بعد أشهر من ولادتها أنها مصابة بشلل دماغي. لم يكن وقع الخبر سهلاً في بداية الأمر، لكنهما قررا أن يسخّرا كل إمكاناتهما لتأمين الرعاية الكاملة لريما. شاء القدر بعد 14 عاماً على ولادتها أن تبقى ريما مع أمّها تصارعان الحياة وحيدتين من دون أيّ سند أو معيل، فالأب رحل باكراً جرّاء ذبحة قلبية، ولم يترك لهما سوى راتبه التقاعدي وأرض صغيرة والمنزل الذي بناه بجوار أهله.
(هيثم الموسوي)

سارع أهل الزوج إلى إصدار قرار حجر على الطفلة واحتجزوا نصف راتبها الذي تتقاسمه مع والدتها، كما وضعوا يدهم على الأرض والمنزل وضيّقوا على جنى بشتى الطرق، إلى أن وصلت بها الحال إلى الاستسلام لإرادتهم. حملت ابنتها وبعضاً من أغراضها وتركت لهم القرية بما فيها. استأجرت منزلاً صغيراً في طبقة أرضية في بيروت، لتتمكن من إدخال وإخراج كرسيّ ابنتها المدولب. تابعت حياتها التي سخّرتها لراحة ريما وتأمين تعليمها وكل احتياجاتها، من دون أن تطلب من أهل زوجها ليرة واحدة. كان طلبها الوحيد إعطاءها حق الوصاية على ريما ورفع الحجر عنها لتسهيل الإجراءات المتعلقة بها، وليأخذوا في المقابل البيت والأرض وكل ما لزوجها الراحل حصة فيه، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل.

في المحاكم الشرعية
بدأت الأم صراعها مع المحكمة الشرعية السنية في إحدى قرى الجبل، في كل مرة تحتاج فيها إلى سحب حصة ابنتها من مرتّب والدها أو أي تعويضات تعود لها، لأنه بموجب قرار الحجر لا تستطيع الأم أن تتصرف بأيّ أمر مرتبط بابنتها، إلا بناءً على قرار من المحكمة الشرعية التي أصدرت قرار الحجر عليها. وفي كل مرة كانت تجهد لإقناع القاضي الشرعي بأنها تحتاج شهرياً إلى مبالغ أكثر بكثير مما يوافقون على سحبه من مرتّب ابنتها، وأن كلفة بدل النقل إلى المحكمة لتوقيع إذن الصرف بشكل شهري وصلت في السنتين الأخيرتين إلى قيمة كل الراتب التقاعدي لزوجها المتوفّى. فقررت ترك الراتب في البنك وعدم المطالبة به لأنها لم تعد قادرة على دفع بدل نقل من بيروت إلى مكان وجود المحكمة الشرعية لتقديم طلب إذن الصرف لمرتّب لا يكفي حتى أجرة التاكسي ذهاباً وإياباً.
لم يشفع للأم المنهكة أمام المحكمة الشرعية رعايتها لطفلة من ذوي الاحتياجات الخاصة، فهي من ربّت وعلّمت ريما بمفردها، من دون معيل آخر، بعدما تخلّى عنهما -عن سابق تصوّر وتصميم -أهل الوالد، وحُرِمت ريما كذلك من حقها في الرعاية الاجتماعية من قِبل نظام سياسي يشرّع القوانين الإنسانية إرضاءً للمجتمع الدولي فقط، من دون تطبيقها.

في القانون
أقر القانون 220/2000 المتعلق بحقوق الأشخاص المعوّقين وورد في أسبابه الموجبة أن لبنان من أولى الدول التي التزمت الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وأن قوانينه هدفت إلى تأمين أكبر قسط ممكن من العدالة الاجتماعية والمساواة، وأنه عانى لسنوات طويلة من الحروب المدمّرة ما جعل من قضية الإعاقة في طليعة قضاياه الملحّة ومن أكبر مشاكله الاجتماعية والاقتصادية.
كل ما ورد في هذا القانون من عناوين تحدد حقوق المعوّق في بيئة مؤهلة ورعاية اجتماعية، والحقّ في التعلّم والعمل والسكن.. ما زالت حبراً على ورق، قضية ريما مثال صارخ على تجاهله من قِبل القضاء الشرعي والمدني.
صرّحت جنى مراراً وتكراراً بأنها المعيل الوحيد لابنتها، بعدما سُلبت كل إرث زوجها بما في ذلك البيت الذي تشاركا في بنائه وتجهيزه. ورغم ذلك، قبِلت المحكمة الشرعية طلب الحجر على ابنتها المقدّم من قِبل أهل زوجها وهم يعرفون تماماً أن هذا القرار هو لإعاقة الأمّ والتضييق عليها وليس لحماية الطفلة. لم تنظر المحكمة إلى حالة ريما بعين العدل والإنصاف واختارت تطبيق النص بحرفيته في الحالات التي يتم فيها الحجر ويُحدد الأشخاص المخوّلون تقديم هذا الطلب.
لم تحاول المحكمة الشرعية أن تتحقق من دور الأم وأهل الزوج المتوفّى تجاه الطفلة المطلوب حمايتها، بحسب زعم مقدّمي طلب الحجر، فهل يستحق نصف راتب تقاعدي وقطعة أرض صغيرة كل هذا الالتفاف على مبدأ العدل والإنصاف في مثل هذه القضايا؟
وهل يحتاج إصدار قرار تسليمها كامل المرتب - الذي لا يتجاوز المئة دولار اليوم - لتتمكن جنى من متابعة حياتها مع ابنتها بشكل لائق، كل هذا العناء لإقناع المحكمة الشرعية فيه؟ في المقابل تقتنع بحرفية النص في تطبيق قرار الحجر؟
«العدل أساس الملك» هي الجملة التي تزيّن جدران قاعات المحاكم وقصور العدل، وثقافة حقوق الإنسان تترجم بالرعاية الاجتماعية للفئات الأكثر ضعفاً وتغليب مصلحتهم على أي مصالح أخرى، فالقاضي العادل هو القاضي الذي يحمي الطرف الأكثر ضعفاً.

في المحكمة المدنية
لم ينتهِ صراع ريما وأمها مع المحكمة الشرعية، بل دخلت في مواجهة جديدة مع المحكمة المدنية التي ظنّت للوهلة الأولى أنها قد تكون أكثر إنصافاً.
أنذر صاحب البيت الذي تسكنه جنى وابنتها بوجوب ترك المنزل، إذ لا يرغب في تجديد عقد الإيجار لها. حاولت جنى كثيراً إقناعه بالعدول عن رأيه، ذلك أن هذا البيت مناسب لهما، وعلى الرغم من أنه قليل التهوئة لندرة شبابيكه، إلا أنه قريب من مدرسة ريما ويقع مباشرة على الطريق العام، من دون أي أدراج أو عوائق، ما يسهّل حركة إدخال وإخراج ريما مع الكرسي المدولب. لكن طمع المالك طغى على ما يبدو على أي اعتبارات إنسانية.
هل الفئات الأكثر تهميشاً وضعفاً محكومة وحدها بتطبيق النصّ بحرفيّته، فيما الأقوياء المحظيّون تدوّر الزوايا لأجلهم؟


لم تجد جنى بيتاً مناسباً خلال المهلة القصيرة التي أُعطيت لها، وعندما استشارت إحدى الصديقات المحاميات نصحتها بأن تنتظر حتى يتقدّم بدعوى إخلاء، فتكسب بذلك بعض الوقت الإضافي لتتمكن من إيجاد منزل. تقدّم المالك بدعوى إخلاء أمام قاضي الأمور المستعجلة في بعبدا، فحضرت المحامية الصديقة الجلسة الأولى واستمهلت للجواب. فأمهلها القاضي أسبوعاً واحداً فقط، كونها قضية مستعجلة.
في الجلسة الثانية، تقدمت المحامية بلائحة جوابية ضمّنتها كل ما يجب الإضاءة عليه وخاصة لجهة الوضع الخاص لابنة المدعى عليها وأنه ليس بالإمكان إيجاد سكن ملائم لحالتها، وبأن المالك يطلب الإخلاء ليس للضرورة العائلية وإنما لإعادة تأجير السكن بسعر أعلى، وطلبت من القاضي إعطاءها مهلة ستة أشهر لترك المأجور، طالبة منه الاستناد إلى القانون 220/2000 لجهة حق المعوّقين بالسكن الملائم. إلا أن الطرف الأضعف في هذا الملف - والذي يجب أن ترجح كفته لناحية تطبيق قاعدة العدل والإنصاف وليس النص القانوني بحرفيته - كان صاحب الشقة وليس ريما وأمها، إذ أصدر القاضي قراراً بالإخلاء فوراً.
ما هو المعيار الذي يحكم على أساسه القضاة في لبنان، سواء كانوا شرعيين أو مدنيين أو عسكريين؟ وهل الفئات الأكثر تهميشاً وضعفاً محكومة وحدها بتطبيق النص بحرفيته، فيما الأقوياء المحظيّون تدوّر الزوايا لأجلهم؟