بغضّ النظر عمّا إذا كان العدو قد وجَّه رسائل غير علنية إلى حزب الله وحماس، بأن وضعه المتفجر داخلياً لا يعني عدم استعداده لرد غير تناسبي على أي ضربات عسكرية يتعرّض لها، كما ذكرت القناة 12 في التلفزيون الإسرائيلي، وبعيداً عما إذا كانت إسرائيل ترجح هذا السيناريو، فإن لهذه الرسالة بعداً آخر، يتصل بتصدير الأزمة الداخلية التي يعاني منها الكيان. فمن حيث المبدأ، المبادرة إلى خيارات هجومية ضد تهديد خارجي يُفترض أن يؤدي إلى اتحاد مجمل الجمهور وقواه السياسية، وإلى فرض أولويات جديدة تجتذب اهتمام الرأي العام والمؤسسات بعيداً عن الخلافات والتناقضات الداخلية، إذ تواجه حكومة نتنياهو تحديات داخلية بفعل تفاقم الانقسام الداخلي إلى مستويات غير مسبوقة، لذلك من مصلحتها تحويل التركيز السياسي والإعلامي إلى تحديات ومخاطر أخرى لجعلها تحتل اهتمامات الرأي العام.مع ذلك، ينبغي التمييز بين رفع مستوى التهديدات والرسائل، وبين تنفيذ اعتداءات عسكرية. في الحالة الأولى، تملك إسرائيل هامشاً واسعاً للذهاب بعيداً في التهويل والتهديد... لكن ذلك قد يؤدي إلى زيادة التوتر، وتترتّب عليه نتائج سياسية وعسكرية غير مرغوب بها، في هذا المجال. أما في ما يتعلق بتنفيذ الاعتداءات العسكرية، فإن الهامش في هذا السيناريو ضيق جداً بفعل عوامل عدة، في مقدّمها معادلات القوة التي استجدّت في بيئتها الاستراتيجية. ورغم أن المواجهة العسكرية قد تحرف الأنظار عن التناقضات الداخلية، إلا أن ذلك غير كافٍ لترجيحها، إذ إن هناك أسئلة أساسية ينبغي على صانع القرار الإجابة عنها أولاً، منها مدة المواجهة والأثمان وماذا بعد انتهائها وكم سيطول استحواذها على اهتمام الرأي العام الداخلي، وهل يرى هذا الأخير أنه كان بالإمكان تفاديها فيتحول الأمر إلى عامل إضافي في مفاقمة الأزمة السياسية؟
وتجدر الإشارة إلى حقيقة أن إسرائيل عدو عاقل، وهي حتى عندما ترتكب مجازرها تنفذها بشكل مدروس في التوقيت والأسلوب. كما أنها كيان تلعب المؤسسات دوراً رئيسياً في قراراته الأمنية، وتتداخل في حسابات هذه المؤسسات عوامل واعتبارات عدة يكون فيها العامل الداخلي أحد العناصر التي تحضر لدى جهات التقدير والقرار. وفي هذا المجال، للجيش دور رئيسي في بلورة وتنفيذ أيّ قرار عسكري. لذلك فإن هامش الأشخاص في الدفع نحو خيار عسكري ينبغي أن يمر عبر مؤسسات تقاربه من زوايا المصلحة الإسرائيلية التي قد تلتقي وقد تتعارض مع بعضها.
لا يعني ذلك أنه ليس للمصالح الشخصية والحزبية والداخلية دور معتبر في قرارات هذا الزعيم أو ذاك، لكنّ هذه المصالح ليست وحيدة ولا حاسمة في عملية اتخاذ القرار، بل ينبغي أن تتساوق مع عوامل أخرى. والسؤال هنا يتمحور حول حجم تأثير المصالح الشخصية والحزبية الضيقة، ومدى قدرتها على تطويع الاعتبارات المهنية. فلو كانت هناك مبرّرات موضوعية لهذا القرار العملياتي العدواني، لدى جهات القرار السياسي والأمني، عندها يخرج عن كونه تصديراً لأزمات داخلية، ويصبح أقرب إلى التوظيف الداخلي التقليدي في الحياة السياسية الإسرائيلية. لكنّ الكفاءة في تحليل هذا الحدث أو ذاك، تكمن في بلورة مفهوم يأخذ في الحسبان جميع العوامل ويحدد موقع كل منها في سلم الأهمية والتأثير.
في المقابل، كل نشاط عملياتي في أي توقيت كان، سيُنفذ في ظل سياق سياسي داخلي وخارجي قائم... فكيف عندما تكون البيئة الاستراتيجية الإقليمية والدولية، تضجّ بالمتغيرات المفصلية والمتسارعة وتتميز بالتداخل بين الساحات والبيئات الداخلية والخارجية. عندها من الطبيعي أن تكون للكثير من الخيارات والقرارات أبعاد ورسائل داخلية وخارجية.
في هذه الحالة، لا يمكن الحديث عن أن هذا العدوان العسكري هو ترجمة لنظرية تصدير الأزمة الداخلية. وإنما يكون قد أتى في توقيت (وقد يتم توقيته مرتبطاً بعوامل متعددة منها الداخلية) عملت القيادة السياسية الحالية على توظيفه في أكثر من اتجاه بما فيه الاتجاه الداخلي. وينبغي عدم إغفال حقيقة أن تبادل الاتهامات في كيان العدو حول وجود خلفيات مصلحية وراء هذا العمل أو ذاك، نهج تقليدي متّبع في كيان العدو بفعل التنافس السياسي وتعارض الرؤى والتقديرات.
بنظرة سريعة إلى تاريخ الحروب الإسرائيلية، لا يوجد لنظرية تصدير الأزمة الداخلية الإسرائيلية عبر شن حرب عسكرية أي مصداق فعلي. يمكن الافتراض أن بعض العمليات (مثل تدمير المفاعل النووي العراقي عشية الانتخابات) خدمت بعض الزعامات أو الأحزاب، إذ أتت في ظل تنافس انتخابي وسياسي (فوز حزب الليكود في انتخابات 1981). في حين أن بعض العمليات العسكرية الواسعة أدّت إلى نتائج مغايرة لما كانت تسعى إليه القيادة السياسية (عملية عناقيد الغضب عام 1996 التي أدّت إلى جانب العمليات الاستشهادية في فلسطين، إلى إسقاط شمعون بيريس في انتخابات رئاسة الحكومة. لكنّ الجيش كان قد أوصى بهذا العدوان قبل أشهر من تنفيذها رداً على عمليات حزب الله القاسية في منطقة الحزام الأمني).
ليست الحرب ضد كل خطر خارجي ما يوحّد الساحة الداخلية بالضرورة خصوصاً إذا أدّت إلى نتائج إشكالية وخسائر قاسية


من حيث المبدأ يُفترض أن أي كيان يتعرّض لهجوم خارجي ابتدائي، ترتفع معه أسهم تكتل الداخل في مواجهته. لكن ليس كل خطر خارجي يوحّد الساحة الداخلية بالضرورة. لأن بعض الضغوط الخارجية قد تُحدث انقسامات أو تفاقمها. ويصبح الأمر مرجّحاً إذا ما أدّت إلى نتائج إشكالية وخسائر قاسية يراها جزء من الجمهور وبعض القوى السياسية غير مبرّرة أو لا تتلاءم مع الإنجازات التي يفترض أن يحققها، وأنه كانت هناك بدائل تسمح بتفادي هذه العملية التي أدّت إلى هذه الخسائر.
كل هذه العوامل وغيرها تفرض التريث في استخدام نظرية تصدير الأزمة، خصوصاً أن أي مواجهة عسكرية كبرى ستنعكس على الداخل الإسرائيلي بما لم يشهده العدو من قبل، إضافة إلى أن للولايات المتحدة دوراً وتأثيراً وموقفاً من أي مواجهة من هذا النوع أكثر من أي مرحلة مضت، نتيجة أولوياتها والصراع الدولي المحتدم. فهل يصح ترجيح فرضية أن حكومة العدو تدفع نحو مواجهة عسكرية يعارضها الجيش ويتم خلالها دكّ الجبهة الداخلية مع كل ما يترتب عليها من نتائج وتداعيات داخلية إسرائيلية وإقليمية ودولية! في هذه الحالة يكون العدو قد هرب من أزمة سياسية اجتماعية داخلية، ليتورط في مأزق أمني استراتيجي لا مخرج منه ستكون له تداعياته على مستقبله.