حال جمهور تيار المستقبل مع زعيمه الراحل ووريثه الفعلي لا تختلف عن حال أي جمهور آخر. ورغم أن الوقائع اليومية، ونتائج الانتخابات المهنية والنقابية والنيابية، دلّت على تراجع شعبية التيار في كل لبنان، إلا أن العاطفة الحقيقية التي يختزنها هذا الجمهور لسعد الحريري تظهر بقوة متى أتيح التعبير عنها. قد يقال إن ما رافق العودة المؤقتة للحريري أعدّ له مسبقاً مساعدوه، غير أن وجوه الناس الذين تجمّعوا لاستقباله تنبئ بأن عواطفهم معه، ويريدون عودته إلى العمل السياسي، ومستعدون لمسامحته عن كل الأخطاء السابقة، وأنهم، من دون تكليف من أحد، أجروا جردة حساب مع من خانوه، في الانتخابات النيابية وقبلها وبعدها. وهم يؤكدون، بموقفهم هذا، أنهم لا يحمّلون الحريري مسؤولية ما حل بهم، بل من كانوا إلى جانبه. وهم يرون فيه شخصاً قد ظلم عدة مرات، وطعن من أهل بيته قبل الآخرين. وأنه في وضع يصعب عليه محاسبة من خذلوه، لكنه سعيد بمعاقبة جمهوره هؤلاء في الانتخابات!
الإجازة التي أمضاها الحريري في لبنان، في مناسبة ذكرى اغتيال والده، أعطت دليلاً إضافياً على أن كل محاولات خلافته أو وراثته لم تنجح. وليس صحيحاً أن أي زعيم أو «متطوع» لدور الزعامة السنية في لبنان، يمكن أن يحظى بهذا القدر من المتابعة والاهتمام، أو لنقل اللهفة، عند جمهوره. ولعدة أيام، لم يكن في بيروت قبل بقية الأمكنة، من أثر لكل من تم انتخابه بسبب «الانكفاء الحريري»، حتى «الخوارج» أدّوا طقوس العزاء بعيداً من الأضواء، ليس تقديراً منهم لضرورة الصمت، بل خشية أن يرجمهم الجمهور بما تيسر من خضر تالفة!
قد تكون ضرباً من الجنون مراجعة الحقبة الحريرية في هذه اللحظة. لن يقبل أحد من أنصاره النقاش حول سياسات الحريري الأب أو الابن خلال ثلاثين عاماً. ليس لأنهم يرفضون تحميل العائلة وحدها مسؤولية ما جرى، بل لأنهم يرون الآخرين، من شركاء «الحريرية» وحلفائها، يتنعّمون بثروات البلاد المنهوبة باسم الحقوق الطائفية والمذهبية، فيما هم يعانون الأمرّين، خصوصاً في أيامنا هذه، حيث تعتني الزعامات الشيعية والمسيحية والدرزية بأحوال ناسها، فيما يبقى السنة أسرى مقايضات في هذا الزاروب أو ذاك، وعليهم فوق ذلك أن يلعنوا آل الحريري حتى آخر ولد إن هم طلبوا دعم السعودية. البؤس الذي تعانيه الأقضية ذات الغالبية السنية، كما أحياء المقهورين منهم في بيروت وضواحيها الجديدة على ساحل الشوف، تعكس حالة القهر والتعب لدى هؤلاء. لكنهم، رغم ذلك، يغفرون للحريري ذنوبه، لأن البناء الطائفي لهذا البلد، يجعلهم ينادون به زعيماً يتوسّلون عودته، ويصلّون ليستأنف نشاطه السياسي والاجتماعي. وغالبية هؤلاء مقتنعون بأن إبعاد الحريري هدفه إقصاء السنة وضرب عناصر قوتهم وجعل الجوع ينهشهم كي يستسلموا لخصومه المحليين أو الخارجيين. وإذا كان بينهم من هو مستعد لتلاوة فعل الندامة، فهو سلوك يظل فردياً حتى ولو خرج على لسان المئات منهم.
أنصار المستقبل شأنهم شأن كل الأنصار الآخرين يرون سعد شخصاً مظلوماً ويغفرون له كل الذنوب
الاختبار الوحيد الذي لا نعرف ما إذا كان سيحصل، هو عندما تتاح للحريري العودة إلى لبنان من منفاه كبطل انتصر على سجّانه. عندها سيتبيّن ما إذا كانت حال السنة تشبه ما كانت عليه حال المسيحيين الذين نزعوا كل الأقنعة بعد عودة العماد ميشال عون من المنفى وخروج سمير جعجع من السجن، وتساقطت الأبراج المشيّدة بسواعد السلطة والخارج في حينه.
كل هذا لا يعني أنه يجب الإذعان لهذا الواقع، لكن التعامل معه وكأن شيئاً لم يحصل هو غباء محض. إذ سيبقى اللبنانيون ينتظرون خطابات زعمائهم طالما لم تتحرر حقوقهم من سجون الدولة الطائفية. وهو أمر دونه كثير من الدماء والدموع، جوعاً أو قتلاً أو هروباً إلى المجهول!