أكثر لحظة شعرت فيها بوطأة الانهيار الاقتصادي، هي اللحظة التي احتجت فيها إلى العلاج. الأمر، لله الحمد، ليس خطيراً. فأنا أعاني من فقر الحديد (الأنيميا)، لكنني رغم تجربتي البسيطة، التي سأذكرها هنا، بتّ لا أعرف فعلاً كيف يتدبّر المرضى أمورهم؟ كيف تسير أحوال من يعانون أمراضاً مستعصية أو مزمنة، في هذه الغابة التي يحكمها تجّار لا يرون الناس إلا من زاوية ما يجنونه من أرباح؟بالعودة إلى تجربتي، فإن أدوية الحديد التي تناولتها طوال 6 أشهر، وبعضها صناعة محلية، أخذت حصة مهمة من راتبي. كنت كلّ شهر أعيد الفحص في المختبر، من دون استشارة الطبيب لتوفير تكلفة الزيارة، لأن كلفة أقلّ معاينة هي 20 دولاراً، ثم أستشير الصيدلي الذي يعطيني في كلّ مرة نوعاً من أدوية الحديد أقوى من الذي سبقه. تناولت العديد من الـ«أمبولات» لكن لم يتحسّن الحديد كثيراً، بل استمرّ في الانخفاض.
ذهبت لاستشارة طبيب متخصص في الدم، يزور لبنان كل فترة عائداً من العراق. بعد الاطلاع على الفحوصات، حسم بأنّي أعاني من سوء امتصاص الحديد، وبالتالي عليّ أن أحقن الحديد في الوريد، كما نصح بتناول اللحوم الحمراء يومياً... كدت أسأله عن الممنوعات لأن ذلك أوفر!
في العيادة، استرسل الطبيب في الحديث عن الوضع في لبنان، حيث «بات الناس يأكلون بعضهم بعضاً». سألني: «أتعلمين من الذي لم يسرق طوال الثلاث سنوات الماضية». فأجبته إن الدنيا لا تخلو من«الأوادم». قال: «لا، من لم يسرق هو من لا يعرف كيف يسرق، أو لم يجد الفرصة لذلك».
خرجت من مكتبه لأحاسب السكرتيرة، فأعطيتها 20 دولاراً كما كانت قد أبلغتني لدى حجز الموعد، فأخبرتني بأن المعاينة صارت بـ25 دولاراً. اعترضت لأن ذلك عكس ما أخبرتني به، فقالت إنها متفاجئة بدورها من تسعيرة الطبيب «والله أنا لا دخل لي، الطبيب حدّد الكلفة هنا على الكمبيوتر!».
خرجت غاضبة، قبل أن أبدأ رحلة البحث عن الدواء، بعدما تبيّن أن «الأصلي مقطوع». الوكيل الحصري، أو «المحتكر» بشكل أدق، لم يعد يحضره إلى لبنان. حسناً، ما العمل؟ الصيدليات تقول البديل التركي موجود.
في إحدى الصيدليات الكبرى في بيروت، تقول لي الصيدلانية إن سعر الإبرة الواحدة 202 دولار، ما يعني أن الإبرتين معاً سعرهما 404 دولارات! طلبت منها التأكد، لأن سعر الدواء الأصلي (الإبرة الواحدة) 60 دولاراً كما أكدت لها! فعادت وأكدت أن السعر هو ما سمعته. أعدتُ الاتصال بالصيدلية نفسها في اليوم التالي للسؤال عن سعر الإبرة، وفي بالي أنّها قد تكون مخطئة، فسمعت الإجابة عينها. قصدت صيدلية أخرى تبيّن أن لديها الإبرتين معاً بسعر 120 دولاراً! الفرق بين صيدليتين لا تبعد إحداهما عن الأخرى كيلومتراً واحداً هو 284 دولاراً.
تأكدت من تاريخ التصنيع وتاريخ انتهاء الصلاحية في العلبتين، وقارنت بينهما في كلّ صيدلية وكانتا متطابقتين. طالبت الصيدلية الأولى بتوضيح فارق الأسعار هذا، فكان الردّ: «مستحيل... أكيد سمعتِ غلط»!
لم أقصد طبيباً بعد لأتأكد من قدرتي على السمع، لذا لا أملك تفسيراً لما حصل إلا أن الصيدليات لا تجد لها رادعاً في التسعير. لا حسيب ولا رقيب لا من وزارة الصحة ولا من حماية المستهلك ولا من وزارة الاقتصاد ولا أي جهة رسمية.
في أبسط العلاجات، كعلاجي الذي يعدّ من المتمّمات الغذائية، حتى أكثرها إلحاحاً لمرضى يعانون من أمراض مستعصية ومزمنة، تبدو نتيجة السياسات الصحية واحدة: موت جماعي أين منه الموت بسبب كورونا؟!
فكثيرون باتوا عاجزين عن شراء أدويتهم، منهم من يقنّن جرعات الدواء الموصوف له، ومنهم من يشتري بدائل لا تتمتع بالفعالية نفسها، ومنهم من أوقف دواءه فعلياً. شكرت ربي لأنني أعمل، ما مكنّني من شراء هذا الدواء لمرة واحدة. وإلا، فلا داعي ربما للقول: لا حياة في هذا البلد إلا للأغنياء. أما الفقراء، فعليهم أن يعانوا من آلامهم وينتظروا موتهم!

* هذا النص عبارة عن شهادة لإحدى المريضات