قبل أيام، أحضرت أمّ خمسينية طفلتها الصغيرة إلى طبيبة الأطفال في أحد المراكز الصحية المدعومة، بسبب إصابتها بالتهابات حادة تستدعي علاجاً فورياً. وبعد يومين، عادت الأم إلى الطبيبة مجدداً، لتجد أن وضع الطفلة صار أسوأ. سألت الطبيبة الأم إن كانت قد التزمت بالدواء الذي وصفته لطفلتها، فأجابتها بأنها لم تستطع شراء دواء الالتهابات واكتفت بالبنادول، حتى إنها حضرت برفقة جارتها إلى المركز الصحي لعدم القدرة على دفع أجرة الطريق. تروي الطبيبة هذه القصة لتشير إلى مدى سوء الوضع الصحي في الجنوب، بسبب عدم قدرة الأهالي على تأمين كلفة الطبابة. الكثير من الأهالي لم يعد باستطاعتهم التنقل للوصول إلى عيادات الأطباء، فينتظرون حضور الأطباء الى المستوصفات القريبة، والتي لا تتقاضى سوى بدلات رمزية عن كلّ معاينة. يؤكد أحد الأطباء أن «الأهالي باتوا يلجأون إلى كلّ الوسائل الممكنة التي تخفف عنهم نفقات العلاج، فيتبادلون الأدوية، ويستخدمون الأدوية العشبية المتوفرة، ويفضلون الاتصال بالأطباء عبر الواتسآب لتشخيص أمراضهم والحصول على الوصفات العلاجية المناسبة».

كلفة النقل والمستوصفات
في المقابل، يعاني الأطباء في القرى من تدني مداخيلهم، ويفضلون عدم الحضور إلى المستوصفات، لعدم قدرتهم على تحمّل عبء الانتقال إليها. فالبلدات بعيدة نسبياً عن بعضها الآخر، ويكلّف الوصول إلى مستوصف في بلدة أخرى ما لا يقلّ عن 500 ألف ليرة، وهو مبلغ لا يمكن تحصيله من الأجور التي يتقاضونها من المستوصفات. لذلك يقول الطبيب: «بات على المرضى الانتظار فترة طويلة لوصول الطبيب المختصّ إلى المراكز الصحية القريبة من منازلهم، أما في حالات الضرورة فعليهم الوصول إلى مستشفى الشهيد صلاح غندور في بنت جبيل حيث تؤمّن العناية لهم ببدلات مقبولة نسبة إلى الأماكن الاستشفائية الأخرى».
واللافت أن عدداً من المراكز الصحية العامة في الجنوب ارتفعت فيها الفاتورة الصحية بشكل كبير، رغم أنها تحصل على مساعدات مالية واجتماعية، فتقول الممرضة فاطمة عطوي إن «مركزاً صحياً معروفاً يحصل على معاينة طبية تزيد على 300 ألف ليرة، وترتفع أسعار الفحوصات الطبية والصور الشعاعية فيه بما يوازي أسعار المراكز الصحية الخاصة»، لافتة إلى أن «عدداً كبيراً من الأهالي باتوا يمتنعون عن تلقيح أطفالهم باللقاحات غير المدعومة من وزارة الصحة ومن بينها لقاحات السحايا، الجدري واليرقان».

موظف أو مغترب؟
تكشف إحدى المدرّسات في المنطقة أن «مؤسسات تربوية خاصة في منطقة صور أحصت أوضاع أولياء أمور طلابها للتعاون معهم لتأمين العلاجات الممكنة للمرضى الفقراء سواء من المعلمين أو الطلاب، وتبيّن أن الأزمة أوجدت فروقات اجتماعية واقتصادية كبيرة بين الأهالي، وبات بعض الأطباء لا يستقبلون إلا الأغنياء أو الذين ينتمون إلى أسر مدعومة من المغتربين». تذكر أن أحد أقاربها اتصل بطبيب ليحدّد موعداً، فسألته السكرتيرة إن كان من المغتربين أو من الموظفين.
اتصل أحدهم لطلب موعد فسألته السكرتيرة إن كان من المغتربين أو من الموظفين


ويلفت أحمد ترمس إلى تفاوت في تسعيرة المعاينة الطبية «بعض الأطباء في منطقة صور يتقاضى 30 دولاراً أو أكثر على المعاينة، بينما يُراوح أجر المعاينة في القرى والبلدات من 600 ألف ليرة إلى مليون ليرة في منطقة صور، وتتدنى في القرى والبلدات النائية في بنت جبيل ومرجعيون لتصل إلى 300 ألف ليرة».
فيما يؤكد الطبيب حسين الأخرس أن عدداً كبيراً من الأطباء «لا يزالون يتقاضون بدلات قليلة، ويقدمون حسومات للمرضى، وأحياناً كثيرة لا يأخذون أي بدل، حسب أوضاع المريض الاقتصادية».

الأعشاب الطبية
في ظلّ هذه الظروف كان من الطبيعي أن يتجه الأهالي نحو الأعشاب المتوفرة لعلاج بعض الحالات المرضيّة، ولا سيما السعال وأوجاع المعدة والإسهال. فيقصد أحمد نور الدين الحقول والأودية للحصول على بعض الأعشاب البرية وأوراق الأشجار المعروفة والمفيدة، مثل الصعتر والشومر وأوراق الكينا. أما طارق ياسين فيعمل على تقطير العديد من الأعشاب، ويجمع ماءها، إضافة إلى زيوتها، ويصنع منها بعض الأدوية الشعبية، «ليس للتجارة، بل للاستعمال المنزلي»، لكن ما يحصل أن «الكثيرين من الأهالي باتوا يسألون عن طريقة تحضيرها، ويأخذون جزءاً من الأدوية والمراهم التي أعمل على تصنيعها لنفسي».

تضامن اجتماعي
في المقابل، يحاول العديد من المغتربين والمقيمين تنظيم حملات لجمع الأدوية الجديدة والمستعملة وتقديمها، إما مباشرة للمرضى، أو للصيادلة الذين يعمدون بدورهم إلى تقديمها لمن هم أكثر حاجة إليها. فيقول أحد صيادلة مرجعيون إن بعض الأهالي يقدّمون لنا الأدوية المتبقية لديهم، ونحن بدورنا نوزّعها على المحتاجين مجاناً، وهذا أمر بدأ بالانتشار بشكل واسع، ما ساهم ويساهم في معالجة العديد من المرضى. ويشير المغترب حسن رمال إلى أن «الهدايا الوحيدة التي بتنا نحصرها لأقربائنا هي الأدوية، وبتنا قبل مجيئنا إلى لبنان نتصل بمعظم معارفنا لنسألهم عن الأدوية التي يحتاجون إليها لإحضارها لهم».



مستشفى صلاح غندور: ملاذ أخير
يُعدّ مستشفى صلاح غندور في بنت جبيل الملاذ الرئيسي للمرضى من الفقراء والميسورين على حدّ سواء. يقصده المرضى من مناطق بنت جبيل ومرجعيون وصور، بعدما شهد تطوراً لافتاً في السنوات الماضية، بحسب مدير المستشفى الدكتور محمد سليمان. إلا أن سليمان، الذي يؤكد حرص المستشفى على عدم رفع الأسعار لوقت طويل، يشكو من عدم القدرة على الاستمرار في هذه السياسة ولا سيّما في ظلّ ارتفاع أسعار المازوت والأدوات الطبية بشكل فاحش، «تم رفع الأسعار بشكل معتدل جداً، ما ساهم في زيادة أعداد زائري المستشفى، لتصل نسبة إشغال الأسرّة إلى 76%، وبات المستشفى يستقبل شهرياً ما يقارب 19000 مريض ومن كل المناطق وصولاً إلى بيروت، بسبب بدلات الاستشفاء المخفّضة».
ويوضح سليمان أن القدرة على اعتماد أسعار مخفّضة تعود إلى أن المستشفى «استطاع الحصول على أجهزة طبية إيرانية الصنع تُستخدم في العمليات الجراحية، وهي ذات جودة عالية، وأسعارها منخفضة جداً نسبة إلى أسعار الأجهزة الطبية المتداولة، كما أن المستشفى يقدّم الحسومات وفق معايير مدروسة وحسب الأوضاع الاقتصادية لكلّ مريض، مستفيداً من صندوق لدعم المرضى يتمّ تمويله من الخيّرين بشكل شهري». يُذكر أن المستشفى يقدم حسوماته أيضاً مستفيداً من صناديق البلديات والعمل الاجتماعي في حزب الله، إضافة إلى أن المستشفى يتيح الاستفادة من الحسومات لحملة بطاقات معتمدة مثل بطاقتَي «سجاد» و«نور» وغيرهما. ويؤكد سليمان أنه في إحصاءات عام 2022 «دخل إلى المستشفى 227 ألف مريض حصل أكثر من 100 ألف منهم على مساعدات وحسومات خاصة، وبلغت قيمة المساعدات والحسومات من الجهات التابعة لحزب الله، مثل العمل الاجتماعي، جمعية الإمداد والأمانة العامة حوالي 10 مليارات و500 مليون ليرة لبنانية، أما الحسومات المقدّمة من المستشفى فقد وصلت إلى 3 مليارات ليرة». ويشير إلى أن «التركيز في المساعدات هو على الحالات الأكثر فقراً، لكن المؤسف اليوم أن معظم المرضى باتوا بحاجة إلى الدعم». كما يؤكد سليمان أن معاينة الأطباء داخل المستشفى هي أدنى فاتورة معاينة صحية في لبنان، أما من ناحية الدواء، فيعمد المستشفى إلى تقديم عدد من الأدوية مجاناً وتقديم حسومات على أدوية أخرى، بحسب مصدر الأدوية والجهات المساعدة.