«أشبه بالكهوف العائدة إلى حقبة الحرب العالمية الأولى»، هكذا وصف خبير كلّفه الاتحاد الأوروبي الكشف على مستودع المضبوطات الواقع في الطابق السفلي لمبنى قصر عدل بعبدا، لدرس إمكانية تمويل مشروع ترميمه. تراجع الاتحاد عن المشروع بعدما أكّد تقرير الخبير أن «أياً من أعمال الترميم غير مُجدٍ لِما يعتري المكان من مشاكل بنيوية، ما يحتّم هدمه كلياً وإعادة بنائه مجدداً».في المستودع الضيّق والمظلم، تتكدّس آلاف المضبوطات تغطّيها طبقات من العفن والصدأ جرّاء المياه الآسنة التي ترشح من سقفه، فيما ترتع الجرذان في أرجائه مجهزةً على المحتويات التي أصبح معظمها متهالكاً، وهي على أهميتها، وخطورة بعضها كالأسلحة، تُرمى كيفما اتّفق.
وكانت النيابة العامة الاستئنافية في بعبدا أرسلت كتاباً إلى قيادة الجيش، عام 2016، لتسلّم الأسلحة والذخائر المضبوطة التي صدرت أحكام بشأن الملفات التابعة لها. وبعد انفجار مرفأ بيروت، وتلافياً لأي خطر، تمّ التنسيق مع الجيش لتسليمه الأسلحة والذخائر المصادرة. رغم ذلك، فإن المستودع الذي تبلغ مساحته نحو 60 متراً مربعاً بات حالياً أشبه بمقبرة تغصّ بمضبوطات معظمها بحكم التالف.


وقد كُلفت الضابطة العدلية (مخافر وفصائل..) بإبقاء المضبوطات الثقيلة أو ذات الحجم الكبير (أسلحة، أغراض قيّمة..) لديها لعدم إمكانية إيداعها في خزائن النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان. المفارقة أن الأموال المضبوطة بكميات كبيرة تودع حالياً لدى صندوق تعاضد القضاة، وليس لدى صندوق النيابة العامة على غرار باقي المحاكم، بعدما غصّ الأخير بالأموال عقب انهيار الليرة. وعادة ما يُحكم بمصادرة الأموال لصالح الخزينة اللبنانية، في انتظار البتّ في أمرها. أما الأوراق فتبقى طيّ الملف التابعة له، وتوضع الأغراض الصغيرة الحجم حالياً في خزائن النيابة العامة التي تشرف بشكل مباشر على جميع المضبوطات.
ويُدوّن في سجل الأمانات لدى النيابة العامة في جبل لبنان، سنوياً، أكثر من ألف محضر، يتضمّن كل منها مضبوطاً أو أكثر. ويُدوّن في سجلٍ نوع المضبوط ورقمه وبعض المواصفات، ويجري أحياناً تصوير بعض المضبوطات بحسب طبيعتها، وتتم الاستعانة في الجرائم ذات البعد الجنائي (قتل وغيره) بعناصر المباحث الجنائية للكشف الحسّي والتحليل والمعاينة. إذ نصّت المادة 41 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، على أنه «إذا وقعت جريمة مشهودة ينتقل الضابط العدلي فوراً إلى مكان حصولها، ويبلغ النائب العام المختص بها. ويحافظ على الآثار والمعالم والدلائل القابلة للزوال وعلى كل ما يساعد على جلاء الحقيقة. يضبط الأسلحة والمواد المستعملة في الجريمة أو الناتجة عنها.. ويضبط ما يعثر عليه من مواد جرمية أو أشياء ممنوعة. يستعين بالخبرة عند الاقتضاء».
وخارج الجريمة المشهودة، يقوم الضباط العدليون بالمهام المذكورة أعلاه بتكليف من النيابة العامة. وهكذا فإن للضابطة العدلية دوراً أساسياً في المحافظة على المضبوطات كأداة جرمية يتم الارتكاز عليها في التحقيقات اللاحقة، وتحديد مسار العدالة. إزاء ذلك، يشير أحد المعنيين إلى أن أي تلاعب محتمل بهذه الأدلة، إذا حصل، يكون عبر الضابطة العدلية التي تتولى منذ البداية عملية حفظ المضبوطات وتوثيق المعلومات العائدة لها.

صورة حديثة من داخل قصر عدل بعبدا (من الويب)

وتُنظّم كل المعلومات المتعلقة بالمضبوطات في محاضر تُرسل معها إلى النيابات العامة المختصة، باستثناء تلك التي تفرض طبيعتها أن تبقى في مكانها، أو في مسرح الجريمة مثلاً، ليعيّن حارس قضائي للإشراف عليها، أو تُقفل بالشمع الأحمر ريثما يصدر قرار قضائي يحدد مصيرها. وتجدر الإشارة إلى أن المكننة والرقمنة غائبتان في تنظيم المضبوطات ما يجعلها عرضة للضياع ولتشويه الأدلة التي تحدد مسار الملفات الجنائية. ومن أبرز الأمثلة عن الفوضى، ما حصل مع سيدة ضُبط هاتفها الخلوي من نوع «آيفون»، في معرض ملاحقة جزائية، وحين طالبت باستعادته بعد التأكد من عدم ارتباطها بالجرم الحاصل، سُلمت بدلاً من هاتفها هاتف آخر صيني المنشأ! علماً أنه يحق لكل صاحب مصلحة وصفة التقدم بطلب تسلّم المضبوط، أمام المرجع المختص حيث يوجد الملف. وفي حال كان المضبوط مشروعاً ولا يشكل أداة جرمية، أو قد تم الفصل نهائياً في الدعوى، ولم يعد هناك جدوى من حفظه في المحكمة، تُقرر المحكمة تسليمه إلى صاحبه، بعد موافقة النيابة العامة الاستئنافية.
أعمال الترميم لمستودع المضبوطات في قصر عدل بعبدا غير مجدية لِما يعتريه من مشاكل بنيوية في هيكله


وفي غياب النصوص القانونية لناحية مسك المضبوطات وتنظيمها وتوضيبها والمحافظة عليها، تتولى كل محكمة آلية معيّنة بذلك. ففي محكمة النبطية مثلاً، يرتبط المضبوط بالملف الذي يتبع له، بحيث يودع معه. إذ توضع البنادق، والأسلاك الحديدية، والبطاريات، والأجهزة الكهربائية وغيرها من المضبوطات بين مكاتب الموظفين. وحتى المواد المخدّرة، توضع في خزائن المحكمة كما هي، وتبقى كل هذه الأشياء على حالها، إلى حين اختتام المحاكمة في الملف، بحيث توضع في المستودع إلا إذا قررت المحكمة خلاف ذلك.
وبحسب أحد الموظفين، فإنه قلّما تُتلف هذه الموجودات، وإذا حصل، تُبلّغ المراجع المعنية، فإذا كانت مواد مخدّرة مثلاً، يُبلّغ مكتب مكافحة جرائم المخدرات. أما الأسلحة، فتوضع في تصرّف الجيش اللبناني الذي يقرر الاحتفاظ بها، في حال كانت صالحة للاستخدام، أو تلفها.
أما في قصر عدل صيدا -ذو البناء الحديث نسبياً- تبدو الأمور مختلفة إلى حد ما، لوجود أربعة مستودعات كبيرة ومنظّمة، إضافة إلى خضوع المشرفين عليه لدورات تدريبية عبر إحدى الجهات المانحة. وبحسب القيّمين، يمكن العثور على أي مضبوط، كونه مرتباً ومنظّماً ومرقّماً بحسب المحضر المدوّن في سجل الأمانات لدى النيابة العامة الاستئنافية. إلا أن اللافت في قصر عدل صيدا أن الأسلحة والذخائر المضبوطة، لم تغادر مكانها منذ أكثر من عشرين عاماً، إذ لم يتسلّم الجيش أيّاً منها منذ ذلك الوقت.
وفي قصر عدل بيروت، حيث مستودع المضبوطات منظّم إلى حد ما، بعد تأهيله من قِبل إحدى الجهات المانحة، تكمن المفارقة في ان جميع تلك المضبوطات خاضعة مباشرة للنيابة العامة التمييزية، بحيث لا يمكن أن «تخرج إبرة من دون موافقتها».



من المضبوطات أكواز صنوبر


لدى الحديث عن المضبوطات، ينبغي التمييز أولاً بين تلك التي تُعدّ أداة جرمية، أي التي تُرتكب عبرها أو بواسطتها الجريمة، وتلك التي تُضبط في معرض حصول جرم ما، أو نتيجة حصول جرم ما، كالمسروقات وغيرها. وعليه، تتنوع هذه المواد المضبوطة الموجودة في المستودعات بين أسلحة حربية وبنادق صيد، وآلات حادة، ومناشير، وسيارات، ودرجات نارية، ومصاغ ومجوهرات، وأسلاك كهربائية، وخردة متنوعة، وأجهزة كهربائية، وبالطبع كميات من المواد المخدرة، وغيرها. أما النقود الورقية، فتوضع عادة في الخزائن الحديدية للمحاكم، إذ سجّل في الآونة الأخيرة ضبط الكثير من النقود المزوّرة، من عملة الدولار الأميركي، ومستندات متنوعة والتي تبقى عادة مُرفقة في الملف القضائي. والملاحظ في الآونة الأخيرة أن المسروقات المضبوطة لا تقتصر على الأشياء القيّمة والثمينة، بل تشمل المحاصيل الزراعية، ومنها أكواز الصنوبر التي ضُبطت مؤخراً في إحدى المحاكم.


ثروة المضبوطات؟
أعلنت قيادة الجيش الشهر المنصرم ضبط حوالي 95 سلاحاً حربياً، إضافة إلى كمّيات من الذخائر وعدد من الآليات والدراجات النارية والمخدرات، ومواد مختلفة، وهو أمر يتكرر دائماً بحسب المتابعة. ولعلّ واقع المستودعات التي تغصّ بكميات هائلة من المضبوطات، والتي صدرت أحكام بمصادرتها، أو تلك غير المشروعة، أو التي أهمل أصحابها المطالبة بها وبقيت مكانها، خير دليل على سوء التصرف بعدم الاستفادة منها، فلماذا لا يتم بيعها بالمزاد العلني أو التصرف بها؟
سؤال يطرحه الموظفون الذين يعاينون يومياً حجم «الثروة» في مستودعات العدليات، فيما يعانون من شحّ غير مسبوق في أدنى المستلزمات لسير المرفق العام. «عالأقل يبيعوهن ويجيبوا فيهن قرطاسية»، يقول أحد هؤلاء. إذ إن الكثير من المضبوطات والتي يُحكم بمصادرتها، تبقى في المستودعات وتتعرض للتلف.


عدم عرض المضبوط أمام المحكمة كسبب تمييزي


يكمن الحديث عن أهمية تنظيم المضبوطات انطلاقاً من كون غالبيتها تشكل أداة جرمية، وليس فقط مجرد أمانة تعاد إلى أصحابها، والأداة الجرمية هي أهم عنصر في المحاكمة. من هنا، تكمن الأهمية القصوى في المحافظة عليها، إذ يحق لأي فريق في الدعوى أن يبني أو يحتجّ عليها. وحول هذا نصّت الفقرة الثالثة من المادة 250 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أنه: «يجب أن توضع جميع الأدلة التي ستُعتمد للفصل في الدعوى قيد المناقشة العلنية بين الفرقاء وأن تُعرض المواد الجرمية وتُتلى المحاضر التي تثبت ضبطها. لكل من الفرقاء أن يتخذ موقفاً منها». إلا أن الواقع يبدو مغايراً تماماً، فبحسب المحامية سامية المولى «قلّما يتم عرض المضبوطات خلال المحاكمات، رغم أهميتها، وعدم قانونية ذلك، إذ إنه كثيراً ما يُذكر استخدام أداة جرمية من دون التحقق من وجودها أصلاً». وتضيف المولى أنه «عند طلب عرض المضبوطات، غالباً ما يُضم هذا الطلب إلى الأساس، ما يعني رد الطلب ضمناً، والذي يُعدّ سبباً تمييزياً في حال رغب المستدعي بالطعن في الحكم».


في القانون

المادة 69
(من قانون العقوبات) المعدّلة وفق قانون 5 شباط سنة 1948:
«يمكن مع الاحتفاظ بحقوق الغير ذي النية الحسنة مصادرة جميع الأشياء التي نتجت عن جناية أو جنحة مقصودة أو التي استُعملت أو كانت مُعدة لاقترافهما.
ويمكن مصادرة هذه الأشياء في الجنحة غير المقصودة أو في المخالفة إذا انطوى القانون على نص صريح.
إذا لم يكن ما تجب مصادرته قد ضُبط مُنح المحكوم عليه مهلة لأجل تسليمه تحت طائلة أداء قيمته حسبما يقدّرها القاضي.
يمكن للمحكمة عند الاقتضاء الاستعانة بخبير لتقدير القيمة الواجب أداؤها وتُحصل القيمة المقدّرة بالطريقة المتّبعة في تحصيل الغرامة».

المادة 98
(من قانون العقوبات):
«يصادر من الأشياء ما كان صنعه أو اقتناؤه أو بيعه أو استعماله غير مشروع وإن لم يكن ملكاً للمدعى عليه أو المحكوم عليه أو لم تفض الملاحقة إلى حكم.
إذا لم يكن ما تجب مصادرته قد ضُبط مُنح المحكوم عليه أو المدعى عليه مهلة لتقديمه تحت طائلة أداء ضعفَي قيمته حسبما يحددها القاضي.
يمكن للمحكمة عند الاقتضاء الاستعانة بخبير لتقدير القيمة الواجب أداؤها وتُحصل القيمة المقدّرة بالطريقة المتّبعة في تحصيل الغرامة».

المادة 273
(من قانون أصول المحاكمات الجزائية):
«إذا ثبت للمحكمة وقوع الفعل وتحقق فيه الوصف الجزائي وتوافرت الأدلة على نسبته للمتهم فتقضي بتجريمه وبتحديد العقوبة التي تنزلها به. كما تحكم بتعويضات للمدعي الشخصي إذا طلبها. تحكم بمصادرة الأشياء المضبوطة أو بردّها إن لم يتوافر سبب لمصادرتها. يمكنها أن تقضي أيضاً بتدبير أو أكثر من التدابير الاحترازية وبعقوبة أو أكثر من العقوبات الفرعية أو الإضافية».
«للمحكمة أن تقضي بإدغام العقوبات الأصلية عملاً بأحكام المادة 205 من قانون العقوبات».