يواجه الشعب السوري، منذ سنوات، حزمة من العقوبات الدولية التي فرضتها دول عدّة، أبرزها الولايات المتحدة كإجراء عقابي بعد اتهامها بـ«دعم الإرهاب وقتل مدنيين سوريين». وكان «قانون قيصر» آخر هذه العقوبات بعد دخوله حيّز التنفيذ عام 2020 من قِبل الإدارة الأميركية. ورغم ادعاء أميركا بأن هذا القانون يأتي «حماية للمدنيين»، إلا أنّ مضامينه تصبّ في خانة معاقبة الشعب السوري بشكل جماعي (أنظر الصفحة الأخيرة من هذا العدد)، إذ ان العقوبات لا يمكن أن تميّز بين الحكومة والشعب خصوصاً في المناطق التي يسيطر عليها الجيش العربي السوري. الاقتصاد السوري يعاني تدهوراً مستمراً جراء سنوات الحرب الطويلة، ما أدى إلى انهيار العديد من القطاعات الإنتاجية وتهالك البنى التحتية. ويعمل «قيصر» على تقييد التجارة الخارجية، ويستهدف بشكل مركّز قطاع العقارات والنفط، ما يرفع أسعار المحروقات ويقلّص الخدمات الأساسية، ويحرم سوريا من فرص إعادة الإعمار. يتضمّن القانون تقويض القطاع المصرفي والمالي من خلال مراقبة أعمال المصرف المركزي ومعاقبة كل من يتعامل مع الحكومة السورية في محاولة من الإدارة الأميركية لعزل سوريا.

استثناء على الاستثناء
إن استخدام الولايات المتحدة والدول الغربية ومنظمة الأمم المتحدة العقوبات كوسيلة من وسائل معاقبة دول لأسباب سياسية، يستدعي البحث في فعالية هذه العقوبات وانعكاساتها المباشرة على شعوب الدول المستهدفة، وخصوصاً بعد وقوع كارثة طبيعية والحاجة إلى مساعدات دولية لإنقاذ الناجين منها. وقد تبيّن أن العقوبات التي فُرضت على العراق مثلاً، والتي تُفرض على سوريا اليوم، تستهدف في الحقيقة الشعوب وخصوصاً الفقراء والمرضى والمعوقين والعجزة والأطفال والنساء، أي الفئات الأكثر ضعفاً. فبعد الهزة الأرضية التي دمّرت جزءاً كبيراً من الشمال السوري، تعاظم دور الحصار في إبادة الشعب السوري بشكل جماعي.

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

وصحيح أن الخزانة الأميركية أصدرت قرار يوم الخميس الفائت (9 شباط)، بعد مرور ثلاثة أيام على الزلزال، يجمّد العقوبات على السوريين حتى الثامن من شهر آب القادم، غير أن هذا القرار يستثني العقوبات المفروضة على الحكومة السورية (الفقرة b2 من القرار). وتشمل "الحكومة السورية" بحسب قانون اللوائح الفيدرالية الأميركي: "دولة وحكومة الجمهورية العربية السورية وأي قسم سياسي أو وكالة أو وسيلة لها بما في ذلك مصرف سوريا المركزي، وأي كيان مملوك أو خاضع لسيطرة الحكومة السورية بشكل مباشر أو غير مباشر، بما في ذلك أي شركة أو شراكة أو جمعية أو أي كيان آخر تمتلك فيه الحكومة السورية حصة 50٪ أو أكثر أو حصة مسيطرة، وأي كيان خاضع للسيطرة بطريقة أخرى من قِبل تلك الحكومة". (الفقرة 542.305).



90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر
أشارت الخبيرة الحقوقية في الأمم المتحدة ألينا دوهان في تشرين الثاني 2022 إلى «الآثار الكارثية» جراء العقوبات الأحادية المفروضة على سوريا من خلال تقرير أعدّته بعد معاينتها الميدانية للوضع في سوريا. إذ قالت إن 90% من سكان سوريا يعيشون تحت خط الفقر. مع محدودية الوصول إلى الغذاء والمياه والكهرباء والمأوى ووقود الطهي والتدفئة والمواصلات والرعاية الصحية.
وتحدثت دوهان قبل ثلاثة أشهر من وقوع الزلزال عن «تدمير أكثر من نصف البنية التحتية الحيوية بالكامل أو تضررها بشدة». وأضافت في تقريرها أن «فرض عقوبات أحادية الجانب على القطاعات الرئيسية، بما في ذلك النفط والغاز والكهرباء والتجارة والبناء والهندسة، أدى إلى القضاء على الدخل الوطني، وتقويض الجهود نحو التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار".
وقبل وقوع الكارثة الطبيعية يوم 6 شباط الجاري، كانت دوهان قد حذّرت من تداعيات خطرة على الصحة العامة والأمن الغذائي، جراء توقف عملية إعادة تأهيل شبكات توزيع مياه الشرب، والريّ وتطويرها. ودعت إلى الرفع الفوري لجميع العقوبات الأحادية الجانب التي تضرّ بحقوق الإنسان، بعدما بات 12 مليوناً سورياً يعانون من انعدام الأمن الغذائي.

رهاب «قيصر»
كشفت الصور المتواترة من سوريا عن حجم المأساة التي يعيشها الشعب السوري جراء الزلزال المدمّر الذي ضرب شمال البلاد. قرى بأكملها سُوّيت بالأرض، مخلّفة وراءها آلاف الضحايا والمفقودين، فيما الإمكانات اللوجستية لرفع الأنقاض لا ترتقي إلى مستوى الحدث. ناشدت السلطات السورية المجتمع الدولي «مدّ يد العون» لمساعدة ضحايا الزلازل، وطالبت برفع الحصار عن سوريا. إلا أن الاستجابة لم تأتِ إلّا من بعض الدول العربية، بينما مرّت لحظات ثقيلة على ذوي المفقودين الذين كانوا يبحثون عن أمل بين الركام وعن أصوات كانت ترتفع بصعوبة بين الحين والآخر من تحت الأنقاض تطالب بإنقاذها.
القرار الأميركي بتجميد العقوبات على سوريا لمدة محدودة لا يشمل وزارة الصحة والمستشفيات الحكومية والطواقم الطبية وفرق الإغاثة التابعة لها


امتنعت العديد من الدول عن إرسال فرق إنقاذ إلى سوريا امتثالاً لقانون قيصر. ولم تشفع صور الموت وصور الأطفال وهم يئنّون تحت ركام بيوتهم المدمّرة من إزاحة الحسابات السياسية جانباً والكيل بمكيال واحد، مكيال الإنسانية.
في لبنان، لم يقف قانون قيصر حائلاً دون مساعدة الشعب السوري بحسب ما أعلن وزير الأشغال علي حمية، الذي أشار إلى فتح الأجواء والموانئ اللبنانية، مع إعفاء شركات النقل الجوي والبحري الوافدة، لأغراض إنسانية، من الرسوم والضرائب. وتوجّهت مجموعة من الجيش اللبناني، وفوج الإطفاء والدفاع المدني وفرق إنقاذ من الصليب الأحمر اللبناني إلى سوريا للمساعدة. كما أعلنت العديد من هيئات المجتمع المدني عن إقامة حملات لجمع التبرعات والمواد العينية لمساعدة الشعب السوري.



معاقبة السوريين بعد معاقبة العراقيين
أدى الحصار الدولي (قرار مجلس الأمن الرقم 661 بعد غزو الكويت عام 1990) والعقوبات الأميركية على العراق إلى وفاة ما لا يقلّ عن نصف مليون طفل بسبب حرمان المستشفيات والطواقم الطبية من أبسط المستلزمات والأدوية. واليوم، تأتي الكارثة التي حلّت بالشعب السوري جراء الزلزال المدمّر الذي ضرب مناطق عديدة منها، وأسفر عن مقتل وإصابة وتشريد آلاف العائلات في ظلّ ظروف مناخية صعبة، ليعيد إلى الواجهة تداعيات الحصار والعقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا والتي فاقمت معاناة الشعب وأعاقت عمليات الإنقاذ.


العقوبات تخرق مبادئ القانون الدولي


أقرّت الجمعية العمومية للأمم المتحدة بأن العقوبات الأحادية المتخذة في غير إطار المنظمة الدولية هي وسيلة تستخدمها الدول الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن للضغط السياسي والاقتصادي ضد البلدان النامية، وتشكل خرقاً لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة (قرار الجمعية العمومية الرقم 68/200 بتاريخ 20 كانون الأول/ ديسمبر 2013).