الأصل في الزواج بناء شراكة، قوامها المودّة والرحمة والاحترام المتبادل، بهدف تكوين أسرة ناجحة ومتماسكة. لكن بسبب عدم اعتماد الأسس الصحيحة في الاختيار، تتخلخل الأسر وتصعب العِشرة عند مواجهة أصغر المشاكل والضغوطات. فنجد أسراً صامدة وناجحة بأدنى المقوّمات، وأخرى تسقط في أبسط مطبّ، فيكون أبغض الحلال هو الحل. قد يكون الطلاق نتيجة حتمية لسوء الاختيار، وقد يكون نتيجة لتراكم مشاكل يصعب حلها، لكن النتيجة واحدة، وهي وصول الشريكين إلى نقطة يستحيل معها الاستمرار. من يتأمل في قضايا الطلاق يلاحظ أن نسبه وأسبابه اختلفت في السنوات الأخيرة، إذ لم يعد الزوجان على استعداد لتحمل الصعاب والصبر كما الأجيال السابقة. وإذا كان للأزمة الاقتصادية الدور الأعظم في احتدام الخلافات بين الأزواج وارتفاع نسبة الطلاق، إلا أنّ لكل حالة من الحالات أسبابها الخاصة؛ منها السلوكيات غير المقبولة من قِبل أحد الطرفين، أو الاضطرابات الشخصية كالشك والغيرة، أو عدم الانسجام مع عائلة أحد الطرفين، ما يشكل ضغطاً على الطرف الآخر.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

أصبح كل من الزوجين يطلب الكمال من شريكه ومن حياته الأسرية، متناسياً نقصه وأن تكوين الأسرة يقوم أساساً على تقاسم المسؤوليات والتضحية، ومتغافلاً عن أن مفهوم نجاح أيّ من الزوجين بعد الزواج، لا يقتصر على نجاحه الشخصي وإنما نجاح المشروع الذي أسّسه مع شريكه. فأيّ تنازل يُقدم من طرف لا يُعدّ خسارة أو فشلاً، وإنما تضحية في سبيل إنجاح المشروع الأسمى وهو العائلة. وأيّ فضّ للشراكة يجب أن يكون بمستوى من الاحترام والوعي تلافياً لخسائر قد تصيب الزوجين والأطفال على الصعيدين النفسي والاجتماعي. ففي أغلب الحالات، يكون قرار الطلاق بمثابة إعلان حرب تُستخدم فيها كلّ الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، ويسقط الجميع -ولا سيّما الأولاد- ضحايا معارك التعنّت والجهل وتجاهل قيم الإحسان والمعروف. يتناسى الطرفان قبل الدخول في هذه الدوامة أن زواجهما كان خياراً بالاتفاق والقبول، وأن انفصالهما يجب أن يكون كذلك. وبالتالي يفترض تعميم فكرة الاتفاق قبل الزواج على كل التفاصيل الحياتية، كتنظيم الطلاق وكل ما ينبثق عنه من خلاف على حضانة الأولاد والنفقة وحق إيقاع الطلاق والمفاعيل المادية.

ضحايا الصراعات الزوجية
سارة متزوجة منذ أكثر من عشر سنوات، عانت فيها عنفاً جسدياً واقتصادياً ومعنوياً مارسه عليها زوجها. حاولت كثيراً ترك المنزل واللجوء إلى أهلها، لكنها كانت تضعف وتعود تحت الضغط العاطفي الذي يمارسه الزوج بمنعها من رؤية طفليها. أمام صعوبة الاستحصال على حريتها بالطلاق، اكتفت بالمطالبة بأبسط حقوقها برؤية طفليها. رغم ذلك، لم تنصفها المحكمة حتى تاريخه، ولا يزال الوالد يستخدم الطفلين أداة لمحاربة والدتهما، وصولاً إلى منعهما من الذهاب إلى المدرسة ليكمل إحكام الطوق على عنق الأم وإلزامها بالعودة طواعية إليه. ورغم تراجع الأداء الدراسي للطفلين وتعرضهما لمشاكل نفسية وصحية كالتبوّل غير الإرادي، يرفض الزوج عرضهما على طبيب أو اختصاصي، ويساوم سارة على حريتها طالباً منها دفع 50000 دولار فدية طلاق. فهل تتمكن من الصبر على فراق ولديها وعلى ما يحل بهما أم ستضعف كما عشرات المرات السابقة بسبب تخاذل المحاكم واستقواء الزوج، فتعود مرغمة إلى «زنزانتها» من جديد؟ وإذا عادت، هل ستتمكن من الهروب والنجاة في المرة المقبلة أم ستكون ضحية ضعفها أمام نرجسية زوجها؟
سامية مقيمة في الخارج مع زوجها الذي يحمل الجنسية اللبنانية وجنسية دولة الإقامة. بسبب بعض الخلافات التي يعتبرها الزوج تافهة ومجرد أوهام لا أساس لها، قررت سامية طلب الطلاق. اقترح عليها الزوج السفر إلى لبنان مع ابنتهما لتمضية العطلة علّها ترتاح نفسياً وتتمكن من التفكير بهدوء. استغلت سامية طيبة زوجها وتقديره للأسرة وحاولت تهريب ابنتهما إلى خارج لبنان من دون إعلام الزوج عن مكان إقامتهما. على خلاف السائد، فإن المحكمة الشرعية ساندت هذه المرة الأم ورفضت طلب الأب بمنع سفر الطفلة من لبنان كي لا تفرقها عن والدتها، رغم أن حق الحضانة للوالد المقيم في الخارج. عادت الزوجة إلى بلد الإقامة الأجنبي من دون علم زوجها وأقامت في منطقة حدودية تمهيداً لمحاولة جديدة لتهريب الطفلة بطريقة غير شرعية، معرّضة إياها لمخاطر لا يقوى على تحملها الكبار. ولو لم يتسلح الوالد بجنسية ابنته الأجنبية وانتهاء صلاحية إقامة الأم في الدولة الأجنبية، لما تمكن من الضغط عليها للوصول إلى اتفاق يضمن حق كل منهما بحضانة الطفلة بعد الطلاق.
يختلف تصرف الأزواج في الحالتين. فبين نرجسية الزوج ومرض التعلق الذي تعاني منه الزوجة في الحالة الأولى، وبين جهل الزوجة وأنانيتها واحترام الزوج لقدسية الأسرة وسعيه للانفصال بصورة متحضّرة في الحالة الثانية، يبقى الثابت الوحيد هو الضحية: الأطفال الذين يُستخدمون عن قصد أو غير قصد كبارود للحرب المشتعلة بين الآباء.
منذ أقل من شهر، انتشرت صور للطفل محمد على مواقع التواصل الاجتماعي، وتظهر فيها كدمات على الرأس، وعينان مكحلتان بالسواد. طفل لم يتعلم المشي لتعينه قدماه الصغيرتان على الهرب من وحش بشري قرر أن يصب غضبه وعقده النفسية على كائن ضعيف. ابن العامين ونصف العام أُدخل إلى المستشفى بعد تدخل القوى الأمنية خمس مرات بسبب تعرضه للضرب من زوجة أبيه. تزوجت والدته في سوريا وكان شرط زوجها عدم اصطحاب الولد. فيما تزوج والده من امراة قاسية كانت تتعرض للطفل بالضرب بسبب تبوله اللاإرادي الناتج عن الخوف والرعب. والأخطر أن والده لم يحرك ساكناً أمام هذا الوضع، وبعد تدخل إحدى الجمعيات وإثارة قضيته تم تسليم الطفل إلى عمه كإجراء حمائي له وما زال والده متوارياً عن الأنظار.

الحاجة إلى نيابة عامة أسرية
قضية محمد وغيره من ضحايا العنف الناتج من الأسر المفككة تثير عدة إشكاليات تتعلق بكيفية التعامل مع هذه القضايا. فمن غير المسموح عند مجرد الشك بتعرض طفل للعنف، الحديث عن توقيع تعهد. ولولا تدخل العناية الإلهية لكان محمد فارق الحياة لأننا فكرنا بإعطاء فرصة للجاني. ومن غير المسموح عدم الاستعانة باختصاصيين نفسيين واجتماعيين عند أول اشارة تدل على عنف يُمارس على الأطفال. ومن هنا تبرز أهمية استحداث نيابة عامة أسرية متخصصة في قضايا الأسرة وكل ما ينتج عنها من خلافات، من بينها العنف الأسري، يكون من اختصاصها اتخاذ كلّ الإجراءات لحماية أفراد الأسرة من العنف الممارس من قبل أيّ فرد من العائلة.

الطلاق بالإرادة المنفردة
تكفل القوانين الشرعية الحق المطلق للزوج في الطلاق، وله ذلك بالإرادة المنفردة، بينما هو مشروط للمرأة بذكره في العقد عند السُّنة، أو بتوكيل عند الشيعة، بحيث يُعتبر باطلاً اشتراط الزوجة على زوجها اختيار الطلاق بيدها مطلقاً، أو إذا سافر أو إذا لم ينفق، بينما يُعتبر صحيحاً اشتراطها أن تكون وكيلة عن الزوج في طلاق نفسها، أو في حال موافقة الزوج على الخلع بعد التنازل عن حقوقها المالية.
الخلع، وهو الطلاق بفدية من الزوجة الكارهة لزوجها ببذل مهرها أو ما يزيد عنه مقابل الطلاق. أما طلاق المباراة فهو طلاق الزوج الكاره من الزوجة الكارهة ولا يكون المبذول أكثر من المهر. وفي الحالتين يصدر لفظ الطلاق عن الزوج أو من يوكله، أي يشترط موافقة الزوج. وللمرأة الخيار في الطلاق في حالة واحدة وهو ما يسمى بالتفريق المنصوص عنه في المادة 119 وما يليها من قانون حقوق العائلة «فإذا اطلعت المرأة السالمة من العيوب أن زوجها مصاب بعلّة.. لها أن تراجع الحاكم وتطلب الفراق».
يبقى للمرأة الشيعية أمل بالحصول على الطلاق من خلال طلاق الحاكم وهو قرار تحصل عليه من مرجع ديني وتقوم بإثباته لدى المحاكم الجعفرية.

رؤية الطفل في المخفر؟
زينة حصلت على طلاقها بعد معارك دامت أكثر من ثلاث سنوات، وأُجبرت على التنازل عن حضانة ابنتها مقابل فك قيودها وتحريرها من زوج كان يتفنّن في تعذيبها، معتبراً أن له حق تأديب زوجته ومنعها من لقاء «الأجانب» بحجة التزامه الديني. حصلت زينة على حق رؤية ابنتها 48 ساعة في الأسبوع، وبعد رفض الزوج تنفيذ القرار بحجة حماية ابنته من «أخلاق» أمها غير الملتزمة وفق معاييره، لجأت إلى تنفيذه وفقاً للأصول القانونية عن طريق الضابطة العدلية. لم تحتمل زينة دخول ابنتها في كل مرة المخفر وهي لم تتجاوز سبع سنوات، ولم تحتمل أسئلة ابنتها ونظراتها في كل مرة تتسلّمها، ففضّلت العيش تحت رحمة طليقها وتوقيته الذي يراه مناسباً.
يتناسى الطرفان قبل الدخول في هذه الدوامة أن زواجهما كان خياراً بالاتفاق والقبول، وانفصالهما يجب أن يكون كذلك


ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن رؤية الأطفال في المخفر ليست بناءً على قرار صادر عن المحاكم الشرعية. فوفقاً لنظام أحكام الأسرة الصادر عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، لا يجوز في حال من الأحوال أن تكون المشاهدة في مراكز الشرطة ولا في أروقة المحكمة، أو يتكبّد الأطراف مشقة لا تُحتمل. فتدخّل الضابطة العدلية في هذه الحالات هو لتنفيذ قرار قضائي صادر عن دائرة التنفيذ بسبب تخلّف أحد الأطراف عن تنفيذ ما يتوجب عليه.
لا يمكن حصر مشاكل الطلاق وآثاره في بعض الحالات والأمثلة. نحن أمام شبكة مترابطة ومتداخلة، تبدأ من قرار اختيار الشريك والارتباط به ولا تنتهي بقرار الانفصال، تتداخل فيها المؤثرات النفسية والاجتماعية والاقتصادية. المطلوب ليس السعي وراء الكمال في العلاقة الزوجية أو الطلاق وإنما العمل على تنظيم ذلك. فتنظيم الخلافات يؤدي إلى الخروج منها بأقل الخسائر والأضرار، لذلك يتوجب على المراجع الروحية والشرعية عند تقدم أي شخصين لطلب الزواج، إخضاعهما لدورات تدريبية وتثقيفية يشارك فيها إختصاصيون اجتماعيون ونفسيون وقانونيون توضح للطرفين أهمية المشروع المقبليْن على إنشائه والمسؤوليات المترتّبة عنه، وتمنحهما الفرصة للتفكير والتأكد من صحة خيارهما. كما يجب تعميم فكرة إلزامية توقيع اتفاقيات زواج تنظّم العلاقة بين الطرفين وتنظّم الخلاف بينهما، وتصحيح الأفكار المجتمعية السائدة التي تعتبر الاشتراط مساساً بـ«رجولة» الزوج أو عدم ثقة الطرفين ببعضهما، إذ إنه على العكس يحافظ على استمرارية الزواج وبنائه على أسس واضحة وسليمة، تضمن التخفيف من الآثار السلبية في حال الانفصال.



تحديد سنّ الحضانة
لا يظن أحد أن صدور حكم الطلاق يشكل إنهاء للصراعات بين الأطراف، فهو باب يُفتح أمام عواصف أخرى، تتمثل بالخلاف على الحضانة ورؤية الأطفال. فالقوانين الشرعية والروحية في لبنان تعتمد في تحديد الحضانة على سن الأطفال وليس مصلحتهم. وفيما تحدد المحاكم السنية في المادة 15 من قانون أحكام الأسرة سن الحضانة للأم حتى 12 عاماً للذكور والإناث، لا يوجد نص قانوني محدد عند الشيعة. فبناءً على العمل بمبدأ الاجتهاد في الفقه الشيعي تختلف الآراء الفقهية، ولكن ما هو معمول به حالياً سنتان للذكر وسبع سنوات للأنثى. وحدها طائفة الموحدين الدروز تعتبر أن الأم أحق بحضانة الولد وتربيته إذا اجتمعت فيها الأهلية المطلوبة.