على كل من قال باحتضار «المسرح» اللبناني، أو حسم بأفول دوره، أو تنبّأ بقرب موته، أن يعتذر. فلهذا المسرح، صاحب الجذور الخارجية (الفرنسية بشكل خاص والغربية بشكل عام) العميقة، دور محدّد أوجده، ووظيفة معروفة أمّنت استمراره حتى اليوم. وهو، تبعاً لوقائع التاريخ، ومعطيات السياسة، وحاكمية الجغرافيا، دور لا غنى عنه، ووظيفة لا يستهان بها. إذ لولاهما لضاعت جهود «سايكس» ورفيقه «بيكو»، ولتبخّرت محاولات أشباههما، من السابقين أو اللاحقين، الذين تعاقبوا على الفتك بخرائط المنطقة وتفكيك نسيجها وتلويث اجتماعها وتسميمه.وعلى من قال بتراجع شعبية مسرحنا وتدنّي مستويات الاهتمام أو التفاعل الداخلي والخارجي معه، أن يبادر ومن فوره إلى الاعتراف بهزالة الطرح وبطلانه. وهل هناك ما هو أوضح وأبلغ من هذا الاهتمام أو التفاعل المعبّر عنه باستمرار تقاطر، أو تسلّل، الوفود «السياسية» (اقرأ: الغارات الأمنية - العسكرية) والبعثات «الثقافية» والجيوش القضائية الأجنبية، فضلاً عن التدخلات اليومية، وعلى مدار الساعة، لجواسيسهم وكشّافيهم الصغار من السفراء والقناصل والمبعوثين، في الشاردة السياسية والواردة الأمنية.
ويمكن الإضافة وطلب الاعتذار أيضاً وأيضاً من كل من استخفّ بعبقرية ملحم خلف، أو شكّك بمهارات نجاة عون صليبا، أو قلّل من شأن بولا يعقوبيان، أو استهان بذكاء مارك ضو وتفوّق الجرادي... وباقي الأعضاء المنضوين أو المتقاطعين، السريّين والعلنيين، أو المحسوبين على «الفرقة» التغييرية التي لا تختلف، ولا يمكنها أن تختلف، لا في الشكل ولا في المضمون، عن غيرها من «الفرق» المسرحية التي تعاقبت على شغل المسرح العرائسي اللبناني. فهذه الفرقة، ومن دون الحاجة إلى الشرح ولا التوقف عند فصول التهريج السمج الذي أظهرته، هي في الشكل والمضمون امتداد شبه عضوي لغيرها من الفرق التي يُدفع بها اليوم أو سيدفع بها غداً، إلى المسرح المتهالك نفسه. وهو، في الواقع، دفع أريد منه إلى الإسناد توفير بعض «التسلية» لجمهور ضاق ذرعاً من سماجة الفرق السابقة، أو في الحد الأدنى تكرار محاولات الإلهاء بعد افتضاح اللاعبين المعروفين وضعف أدائهم أو فشله. فدور هذه الفرقة «التغييرية» وغيرها من الفرق التي سبق لها تسلّق الخشبة، يأتي في السياق المرسوم نفسه، سياق التبعية الذيلية المفروضة بقوة العنف العاري أو متمّماته الناعمة. واستحضار أفرادها أو تعويمهم تمّ وفق آليات الاشتغال الطائفي والسفاراتي المعروفة نفسها، أما الهدف الأسمى فتأبيد الدور ومعه الوظيفة التي أعطيت لمسرحنا الذي يبدو أنه لا يقلّ، تبعاً لمصالح وأولويات المهيمن الأميركي وحواشيه، «طليعية» عن باقي المسارح المتممة أو كواليسها في سوريا أو العراق أو اليمن...
وعليه، فإن هذا المسرح «العريق»، كما البلد الذي يحتضنه ويرعاه، والعكس أيضاً صحيح، «أكبر من أن يبتلع، وأصغر من أن يقسّم!». فلهذا المسرح اللبناني تاريخ ضارب وممتدّ إلى ما قبل «الصيغة» المصبوغة بالفرادة المزعومة والمطعّمة بالمبالغات والمنكّهة بالتفاهات. وها هو اليوم، بممثّليه ومخرجيه وكومبارسه وحتى مهرّجيه القدماء والجدد، يعيد التأكيد على أنه ابن الحياة اللبنانية ومرآتها التي لا تنكسر. وإن حدث، لسبب ما، وانكسرت، فإنها لا تلبث أن تلتئم، وتعود بأبهى مما كانت. وهل من درس أبلغ من دروس المحن الموسمية التي لا تغيب إلا لتحضر، ومع ذلك لم تزحزح حجراً من أحجار البناء السلطوي التافه، فضلاً عن توالي «الحروب الأهلية» والصراعات المفبركة. ولعل من الضروري، هنا، التنويه بدور هذا «المسرح» الحاسم والمفصلي في عمليات التجديد الدوري لشباب النظام. وهو النظام الذي كادت الحرب الأهلية التي اندلعت ربيع عام 1975 أن تجرفه ومعه حثالات العائلات المتضامنة في ما بينها كأمتن ما يكون التضامن، لكنه أثبت من خلال لعبة المسرح إياه، في عرضه السعودي في «الطائف»، أنه عصيّ على «العبث» الذي راود مغامري اليسار اللبناني وغلاته ممّن نظّر ذات يوم لاستبدال النظام، ورسم لهذا الاستبدال عبر «برنامج مرحلي» يتيم، سرعان ما تخلّى عنه أهله وأصحابه قبل شروق الشمس، فكانت التوبة، وكان الالتحاق الذيلي المقرون ببيع التاريخ ومعه النضالات وكان وكان... وقائمة هؤلاء الذين باعوا وسمسروا تطول وتطول.
فهذا المسرح، وخصوصاً في طوره الجديد الذي أنتجته الانتخابات النيابية الأخيرة، هو الابن الشرعي لاجتماع مسموم وعقيم لا علاج له، ولا جدوى منه. بل هو مرآته العاكسة. وكل قول لبناني من نوع الدعوة إلى إسقاط الرموز أو هزّ الهياكل هو من باب الترف اللفظي ليس إلا، ويراد منه، إلى تمرير الوقت، الإمعان في الكذب والتضليل. وهو ما نجح زياد الرحباني في التعبير عنه حين اعتبر أن إسقاط النظام وتجاوزه يستلزم إقامته أولاً ليتسنّى من بعدها إسقاطه.
يبقى أن نشير، على هامش الهامش، إلى ما سجله التلفزيون الأسبوع الماضي. إذ شهدنا بالصوت من غير الصورة ارتفاعاً في منسوب السفاهة حين أُوعز للمدعو إبراهيم كنعان، المعروف بكونه أحد براغي الماكينة التي أوقعت بالبلد وأطاحت الاقتصاد وأفقرت الناس، والصبيّ المدلّل لحزب المصرف ولمديره المدعو رياض توفيق سلامة، بتلويث الأسماع بردّية تافهة من ردّيات الكذب والتضليل الإضافي لتشويش الوعي وتعطيله أو صرفه عن وظيفته في التنظيم والتحشيد الذي لا غنى عنه إذا ما قررنا، كأصحاب مصلحة مضادة، المبادرة إلى وضع حدّ لكل هذه الاستباحة غير المسبوقة، وخصوصاً أن الإعداد لجولة جديدة من الحرب على البلد وما يمثله من وزن أو قيمة في المعركة المفتوحة التي تستهدف النيل من مقاومته، بوصفها أثمن وأعزّ ما يملك، قد أنجز. ويمكن معاينة تباشير هذه الجولة من خلال رصد الأهداف الكامنة خلف إعادة تحريك طارق البيطار وتكليفه مهمة طلقتها الأولى. غير أن الأكيد أنها ستكون كغيرها من الجولات السابقة أو تلك اللاحقة محكومة بالفشل الذريع. وعاقبة الفشل، هذه المرة، ستكون وخيمة ووخيمة جداً خصوصاً على من قد تسوّل له مصالحه الوضيعة من قوى أو أفراد أو «جمعيات» المساهمة فيها.