حمدْتك يا ربّ يوم أكرمتني بآيةٍ من آياتك روحاً مُحلِّقَةً، وفي كلِّ لحظةٍ لك حمدي.وشكرتُك يا ربّ، وقد أنعمتَ بآيةٍ على بيت والدها، ومع كلِّ طرفة عينٍ لك شكري.
ورضينا يا ربّ بما قسمت لنا بها وحيدةً، فرحاً وإيماناً. وفي كلِّ يومٍ نرضى بما قسمت لنا وحكمتْ. مذْ وهبتنا عطيّتك صارت حِلْمنا الذي بنيناه خلجةً خلجة وومْضَةً ومضة. نصحو ونغفو على بسمتها. لو هبَّت عليها نسمةٌ لتلقيناها بجفن العين، كي لا يرمش لها جِفْنٌ. ترسمُ لنا في كلِّ صباحٍ بهجةً وسروراً، ونرسم لها في قلوبنا صورةً لآمالها وهي أملنا.
رفيقة دربي... سلوة عمري... ثمرة فؤادي...
أتذكرين يا صغيرتي:
كنَّا نلهو سوياً... طفلةٌ أنا بين يديك.
همساتُك والضحكة. وشوشاتُك والبسمة.

آية شرارة (الأخبار)

فالبنت لا تحكي أسرارها إلّا لأمِّها... ومن لي رفيقة غيرُكِ كي أبوحَ لها بسرّي؟
حتَّى في آخر الكلمات، حنّ قلبُك الصغير على قلبِ أمّك كي لا يحزن وتقرّ عينها، وهمستِ بصوتك الرقيق «لا تخافي يا أمي، قويةٌ أنا ما دام حضنك يحميني».
بالأمس كنَّا هنا، في الحديقة. يُخفي الورد وجهه خجلاً من وجنتيك، وينحني الزهر لعطرك الفوّاح، وتغنين:
يا أمي ما أجملَ الورد... وأنتِ أجمل.
أُنظري لونَ الزهر... وأنت زهرة.
طفلةٌ تطير بين الفراشات. لو رآك أبي تلعبين بين الزّهرِ والماءِ لغنَّاك شعراً:
تُهْتِ حُسناً وبهجةً وجمالا / سِحْرُ عينيك حيَّر الألبابا
هي آيةٌ... وكمْ أودع الله فيها سرّ فيضه، براءةً وعلماً وتألقاً وجمالاً وهي بعد في مطلع صباها. لم تغرّها الدنيا، ولم تأخذها مباهجُ الحياة، ولا زادها الدلال- وهي وحيدةُ أمِّها وأبيها- إلّا تواضعاً وحبّاً للنَّاس، ومشاركةً دؤوبةً في مناسباتهم العامّة.
كانت تبني لقلبها بيتاً من صلاة ودعاء. ترتّل آيات ربّها، وهي آية. تتلو للمهديّ سلاماً وتذرف دمعها مع مواكب الشهداء.
فروض درسها كأنّها فرض صلاتها. فهي شغوفة بالمدرسة، بالقلم والدفتر، بمجالات الأدب والموسيقى، بالصف ورفيقات العمر، وتستعدّ لأولى شهاداتها الرسمية.
خمسة عشر عاماً تبني لنا بيتاً دافئاً، تغمرنا بالحنان. تملأُ حياتَنا حباً ومرحاً... كأنَّ الدُّنيا لا تسَعُها وتسَعُنا. في كل يومٍ أحلمُ بيومها الآتي، قبل أن يأتي موعد الفراق.
إيه يا بنتي وأنت في عينَيْ أمّك طفلة، كانت تنبض روحك بالحياة، ولكن لا تدرين ما خبّأ لك الدهر. فقبل عروج الروحِ بأيام، هيّأت صغيرتي مصلّاها فهي على موعد مع ليالي جدّتها الزهراء. كأنَّها نادتها: تعالي إليَّ يا حفيدتي يا ملاكي، لن يسعَ صفاؤك كلَّ هذا المكان.
لم يعرف حيث أنت، مرضك المفاجئ على بساطته مشفًى ولا طبيب، ولم يهتدِ إليه هنا دواء، فهو في المكان القصيِّ من بلدك عصيٌّ... يُخطف الأحبّة على عجلٍ بلا استئذان. تُرى لو توفَّر علاجٌ هل غيَّر مجراه القدر؟
غَفَتْ صغيرتي على غير عادتها قبل صلاة الفجر، ونحن نسابق الريح بجناحي أبٍ وأمٍّ، يبتهلان إلى ربّهما أن يطوي لهما الأرض من أقصى البلاد إلى قلبها، عسى أن يكون في المكان شفاء، لكن هيهات... هيهات أن يُغيّر مجراه القدر.
أفّ لك يا دهر كم قسوت على قلبي، وقد أريتني صغيرتي ترقد بين أسلاكٍ معلّقة وأنا أدور حولها ليس لي سوى دمعي ينسكبُ وآمالي معلّقةٌ برجاء ربي أن أسمعها مرَّة أخرى تناديني يا أمي... لكن لم أسمعْ سوى نبض قلبِها الصغيرِ جواباً، ولن يُناديني بعد أحد يا أمي.
يا صغيرتي... وأنت في غفوتك الأخيرة عاد لوجهك الملائكي بريقهُ حين أسلمَ الروحَ، كأنَّ الملاك أضاءه نوراً، فعادتْ آيٌ إلى ربّها راضيةً مرضية.
هو قضاء الله ليس له مردٌّ.
فعدتُ أحمل آهاتي، قرحى جفوني، وقلبي يعتصر، ألوذ بحضن أمي، تمسح دمعي، وتدعو لكلّ أمٍّ ليحميها الله من لوعة فراق الأحبّة. باكراً مضيتِ يا صغيرتي في أول يومٍ من عامٍ جديد تحفُّ بنعشكِ ملائكةُ السماء، وتحمله راحاتُ أهلٍ وأحبةٍ، وحولك رفيقاتٌ أكفّف دمعهنَّ بدمعي.
يُطاف بك ببحرِ دمعٍ إلى بيتٍ ليته ضمَّني إليه قبل أن يضُمَّك ذلك القبرُ.
هناك عند جدِّك وهو آيةٌ من آياتِ ربِّه، في حضنه روضٌ لا همّ فيه ولا ظلم، ولا وجع. يُلْحِدُكِ أبٌ يحتَسِبُ لله آيته، وراحهُ تحت خدِّكِ يتلو آيةَ الصبرِ. وأمُّكِ تطوفُ حول الضريحِ، تشمُّ تربتَه. قلبي هنا يقيم لعلَّه يعلو من المكانِ صوتٌ، أو يعود طيفٌ، أو تناديني وأناديكِ، أو تضميني إلى جوارك لأحضنك مرةً أخرى، ويدوم اللقاء بلا فراقٍ يا ملاكي.
يا صغيرتي ما اعتدت البوح بما فاض به القلب، ولا أن أكلمك عن بعد، لكن أدمى مُقلتي ألَمُ الفراق. وبدمع العين كتبت لك على الملأ رسالةَ حبٍّ وشوقٍّ علَّ الروح تأتيني زائرةً فيحلق طيفك، ويشرق في زوايا البيت ينير ظلمته، ليخفّف عن قلب أمك المحزون.
لو تدرين يا صغيرتي كمْ أدمعتِ من عين محبٍّ، وأنت من أبكى رحيلك المفاجئ كلَّ عينٍ رأت صورة وجهك الملائكي، وأتت تحمل آياتِ العزاء تلاواتُ المآذن وأجراسُ الكنائسِ.
أمّا أمُّك فليس لها بعد الفراقِ سلوةٌ إلَّا الدعاء:
يا ربّي هي آيةٌ من آياتك وهبتها الحياة على صورة ملاك في أرضك، ورفعتها إليك فاجعلها يا ربّ ملاكاً في سمائك.
يا ربّي من سواك يربطُ على قلب أمٍّ نازفٍ ينفطر.
يا ربي رُحماك... تسليماً وقبولاً بحُكْمِكَ لا اعتراضاً ولا جزعاً.
أنت وليُّنا تولَّنا برحمتك وتولَّها... فأنت وحدك الطبيبُ من يداوي جرحنا المفتوح على الألم ويلهمنا الصبر، فاجعل مقامها عندك في جنات النَّعيم، حسُنَتْ هناك بيتاً أبدياً ومقاماً.
من قلبيَ المفجوع لكلِّ قلبٍ أصابه حزن، ولكل دمعةٍ ذرفت، ولكلّ كلمةٍ قيلت ولكلّ من شاركنا ألم المصاب كلمة شكرٍ ودعاء أن لا يمر أحدٌ منكم بما مررت، ويحميكم الله من كل سوء...
والسلام.

* فقيدة الصبا آية رائد شرارة
** والدة الفقيدة