يجهد معظم اللبنانيين يومياً لتأمين حاجتهم من الطعام، في ظلّ ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل هائل ومتسارع، والانهيار المتواصل والمتفلّت من أي ضوابط لليرة اللبنانية، وبالتالي لقيمة رواتبهم وقدرتها الشرائية. لكن إذا كان سدّ الجوع ولو بالفتات ممكناً، على صعوبته، فلنا أن نتخيّل معاناة الأشخاص الذين لا تعرف شهيتهم حداً، مهما استهلكوا من الطعام. أشخاص قد يصفهم البعض ظلماً وجهلاً بالـ«فجعانين»، لكنهم في الحقيقة مرضى مصابون بالشره، و«جوعانين» وإن أكلوا. ارتفعت أسعار المواد الغذائية في لبنان 16 ضعفاً منذ عام 2019 وفقاً لبرنامج الأغذية العالمي، ومعها قفزت تكلفة السلة الغذائية من 53 ألف ليرة نهاية عام 2019 إلى 844 ألف ليرة حتى شهر حزيران المنصرم. صعوبة الكثير من اللبنانيين في الوصول إلى الطعام لسدّ الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية قد تصعّب من التعاطف مع الأفراد الذين يأكلون مقدار حاجتهم الطبيعية ولكن لا يكتفون، على اعتبار أنهم يأكلون أكثر مما يلزم. لكنّ معاناة المصابين بالشره حقيقية ومؤلمة وأسبابها خارجة عن إرادتهم، وهم يحتاجون إلى علاج قد لا يكون في مقدار الكثيرين منهم تحمّل أكلافه.

نظرة سلبية
تشكو سابين، وهي سيدة تعاني من الشره من أنّ «نظرة المجتمع إليها في الكثير من الأوقات تؤلم أكثر من الشره في حد ذاته. فأنا بالنسبة إلى الناس مجرد فجعانة، وهو التوصيف الذي يُعتبر الأكثر لطافة ربما الذي أسمعه إذا ما قورن بتعابير أخرى جارحة أسمعها إما جهاراً أو همساً». فاقم الأمر أن «الظروف الاقتصادية التي نعيشها زادت من سلبية الناس تجاهي، حيث بات الإسراف في الأكل أشبه بجرم أخلاقي. وللأسف فالأغلبية لا تعرف معاناتنا ولا تملك أدنى فكرة عن المعنى العلمي للشره».

أسباب عدّة
تعرّف الاختصاصية في التغذية وإدارة الصحة والمستشفيات رنا أبو مراد الشره على أنه «مرض نفسي، لا يشعر من يعاني منه بالشبع. وعلى الرغم من أن المصاب بالشره قد يكون تناول الوجبات الغذائية التي يحتاج إليها جسده، فإنه يحتاج إلى أن يستهلك المزيد من الطعام. وهنالك حالات حيث يكفي الإنسان الشره أن يرى طعاماً أمامه أو شخصاً آخر يأكل لكي يشعر بالرغبة بالأكل من جديد، ولو كان قد أكل منذ لحظات».
بات الإسراف في الأكل أشبه بجرم أخلاقي فالأغلبية لا تعرف معاناتنا


تشرح أبو مراد بأنّ للشره «أسباباً نفسيّة عدة، قد تنتج عن مشاعر متناقضة كالفرح والحزن، أو التوتر والضغط والسعادة، أو عن صدمة عاطفية أو الإحساس بالحب. وهنالك حالة المصابين بالبوليميا، والتي تُعدّ حالة أكثر تطوراً من الشراهة، ويشعر من خلالها الشخص بأنه نحيف ولا يأكل كما يجب ومحروم من الطعام، فيما يكون في الواقع بديناً وأسرف في تناول الطعام». إضافة إلى ما سبق «ساهم وباء كورونا في زيادة الشره لدى الكثير من الناس الذين وجدوا في الطعام سلوى للتعويض عن الملل الناجم عن البقاء في المنزل لفترات طويلة. كذلك تزيد الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي نمرّ بها من الضغوطات النفسية لدى الناس الذين يجدون في الطعام ملاذاً ومهرباً».

الطعام متنفّساً
تجربة سابين مع الشره بدأت نتيجة صدمة عاطفية بعد علاقة دامت لسنوات، «كنت أعيش حياةً طبيعية إلى أن تبدّلت حياتي رأساً على عقب. شعرت وكأن كلّ شيء من حولي تدمّر ووجدت في الطعام متنفساً ألهي نفسي به، حتى تفاقمت حالتي ولم يعد بمقدوري التوقف وضبط نفسي. لجأت إلى اختصاصية في التغذية لكن سرعان ما كنت أعود إلى عاداتي القديمة. فالعلاج يتطلب التزاماً من جهة، ومن جهة أخرى تكاليفه ليست بسيطة. والأسوأ أن الإمكانات المادية لا تسمح بأن ألبي احتياجاتي الغذائية بقدر ما أشتهي. هنالك شعور بجوع دائم غير مرتبط بكمية الطعام التي أستهلكها. والنقص في الطعام أقله بالكميات التي أشتهيها يفاقم من حالتي حيث تزيد عصبيتي ويصعب عليّ النوم وتزيد عدائيتي تجاه الغير».

حلقة مفرغة
حسابياً تكشف أبو مراد أن «الفرد بحاجة تقريباً إلى 140 ألف ليرة يومياً لتأمين حاجته الضرورية من الغذاء، وفي حالة المصابين بالشره قد تتضاعف الكلفة بحوالى 3 مرات وتصل إلى حدود 420 ألف ليرة يومياً. أما الذين يخضعون للعلاج فقد تصل كلفة المسار الغذائي الذي يفترض بهم اتباعه شهرياً إلى حوالى 10 ملايين ونصف مليون ليرة، وهو مكوّن من 5 وجبات يومياً على مدار 6 أيام في الأسبوع».
وعن مصير الذين يشعرون بالشراهة ولا قدرة لهم على تلبية كامل احتياجاتهم الغذائية تقول أبو مراد إنهم «سيشعرون بالكآبة وهو ما قد يدفعهم إلى اللجوء إلى أدوية الأعصاب التي تزيد بدورها من الشراهة وتفتح الشهية. حلقة مفرغة».