يفصل جسر برج حمود بينها وبين حيّ النبعة التابع عقارياً وبلدياً لها. في النبعة، تجمّع شيعة برج حمود ممن عادوا بعد التهجير، أو ممن وفدوا إليها بعد الحرب. من بين مخاتير البرج الـ16، للشيعة مختار واحد، كما لهم ممثل واحد في البلدية، في مقابل أربعة مخاتير وستة أعضاء بلدية للمسيحيين. البعض يحصيهم انتخابياً بحوالي أربعة آلاف صوت. نسأل الرجل الواقف تحت لافتة «هوفيك للأحذية» عن السبيل إلى النبعة. «إنها سيس وليس النبعة». الإسكافي (60 عاماً) الذي يدير محله «خلف قاطع الجسر» منذ 30 عاماً، لا يسمح لتغيّر السنوات والمعالم بأن تؤثر على موروثه الأرمني. يحفظ جيداً ذاكرة أجداده عندما حلّوا هنا. يشير بيديه إلى مواقع المخيمات التي شيّدها أجداده عند وصولهم. كامب تيرو أوّلها، ثم سنجق وطراد وسيس... يفاخر هوفيك بأنه صامد هنا كشاهد على أثر الأرمن هنا. معظم جيرانه الأرمن غادروا «بعد اكتظاظ الحيّ بالآخرين». هو نفسه انتقل للعيش في سن الفيل، لكنه حافظ على محله. مثله، فعل جاره زهراب، المتخصص بخياطة الستائر. قبالتهما، لم ينقطع طبيبان أرمنيان عن المداومة في عيادتهما منذ سنوات طويلة.اللافتات الأرمنية تبثّ في الحيّ طابعاً استثنائياً يُستكمل بصور السيد حسن نصرالله والرئيس نبيه بري والشهداء. يتلقى هوفيك يومياً نصائح من أقربائه وأصدقائه بنقل محله من النبعة. «يعتقدون بأن الشيعة بعبع. هؤلاء نعرفهم ويعرفوننا بخلاف السوريين الذين اكتظ بهم الحي بعد الأزمة السورية». صار الحيّ غريباً طائفياً وثقافياً على أبنائه الأرمن. «من انتقل من هنا للعيش في إنطلياس أو جل الديب وسواهما، من المستحيل بأن يعود. أبناؤهم يأتون أحياناً قليلة لتفقد مرتع الطفولة. الناس انقسموا طائفياً ونفسياً».
الشعور متبادل من قبل الشيعة. خلال الانتخابات البلدية عام 2016، ارتفعت بعض الأصوات الشيعية للمطالبة مجدداً بمنح حي النبعة استقلاله وتشكيل بلدية خاصة به. لكن تلك الدعوات التي تتكرّر منذ عام 1992، لا تلقى تجاوباً لدى المرجعيات السياسية الشيعية.

مجمع فرحات
ترتفع مئذنة مجمع فرحات الديني للإشارة إلى وسط النبعة. يتداخل ملعب مدرسة برج حمود الأهلية مع الحسينية والميتم اللذين أسّسهما الشيخ رضا فرحات في الخمسينيات. يشبه الأطفال والمعلمات والموظفون في الملعب، محيطهم. نسبة فتيات محجبات مقابل نسبة كبرى من السافرات. الانفتاح ينسحب على أداء نجل فرحات، الشيخ زيد المشرف على المجمع. من عائلة مسيحية، اشترى والده الأرض من ماله الخاص ومن تبرعات جمعها للغاية. التف حول المجمع الشيعي الأول من نوعه، أبناء الطائفة الذين أقاموا في محيط مرفأ بيروت والأسواق ومسلخ الكرنتينا حيث كانوا يعملون. سكنوا في ظلاله حتى صار الثقل الشيعي هنا أكثر من الأحياء الداخلية للبرج.
ساهم الشيخ رضا فرحات مع الخوري بولس العريس بتأسيس البلدية عام 1952


بحسب الشيخ زيد، ساهم الشيخ رضا مع الخوري بولس العريس وآخرين بتأسيس بلدية برج حمود عام 1952. بعدها، صار يشجع شيعة النبعة وبرج حمود على نقل قيودهم إليها، من مسقط رأسهم في البقاع والجنوب. لكنه لم ينقل قيوده من عربصاليم. توفي الشيخ رضا قبل 9 سنوات من الحرب الأهلية التي شهدت تهجير شيعة النبعة وتخريب المجمع وسرقة محتوياته، قبل أن يسكن فيه بصورة غير شرعية، مهجّرون من بلدة الدامور. شيعة برج حمود والنبعة المهجّرون حملوا بؤسهم معهم وأسّسوا أحزمة بؤس جديدة في الأوزاعي وحيّ السلم والمريجة وبئر حسن. أما الميسورون فقد نقلوا مؤسساتهم إلى الضاحية الجنوبية. أهالي هونين الذين كان لهم ثقل بين البرج والنبعة، نقلوا أعمالهم وجمعية «أهالي هونين» وباعوا وقفهم الخيري باتجاه الضاحية الجنوبية. بعد عام 1992، عاد المجمّع والحيّ إلى الشيعة. لكن مظاهر البؤس والفقر لم تبارحه برغم التنمية التي حظيت بها برج حمود. «حزام البؤس الشيعي الحقيقي هنا وليس في الضاحية الجنوبية» يقول الشيخ زيد. ويستعرض شهوداً على التمييز الذي يعاني منه الحيّ من قبل النواب والوزراء الأرمن ومن بلدية برج حمود، لناحية الخدمات والتنمية.

حضور منذ 1946
شغلت آربي مانغاسريان منصب مهندسة في بلدية برج حمود طوال 23 سنة، عدا انتخابها عضواً في مجلسها البلدي. خلال عملها، تلقّت طلبات عدة من لبنانيين شيعة لترميم مبانٍ يملكونها، تضرّرت خلال الحرب الأهلية. على المستوى الشخصي، تعرف آربي الكثير منهم منذ صغرها عندما تشاركوا مع الأرمن في تشكيل البرج. لكن معظمهم تهجّروا خلال الحرب، ولم يعودوا بعد الفرز الطائفي. منهم من باع أملاكه، أو أُجبر على بيعها من الميليشيات المسيحية، ومنهم من كلّف وكلاء لإدارتها.
بحسب آربي، سجّل الحضور الشيعي الأول في برج حمود بين عامي 1946 و1947 عقب الاعتداءات الصهيونية على البلدات الجنوبية الحدودية في بنت جبيل. تهجّر الأهالي إلى بيروت. جزء منهم جاء إلى برج حمود واشترى بيوت العائلات الأرمنية التي كانت قد عادت إلى أرمينيا بعد الحرب العالمية الثانية، بتشجيع من الحزب الشيوعي الأرمني. سكن شيعة كثر مكان العائلات الأرمنية. تمدّدوا جغرافياً وتكاثروا عددياً. لكن ميزة شيعة برج حمود أنهم «تعلّموا اللغة الأرمنية والحِرف وتأثروا بالثقافة والعادات الأرمنية». مشاغل البرج وقربها من بيروت وأسواق الوسط والمرفأ ومسلخ الكرنتينا، جذبا على غرار الشيعة، مسيحيين كثراً من الأرياف. وهي الأسباب نفسها التي جذبت لاحقاً العمّال الأجانب الذين جمعوا في البرج بين السكن الرخيص وفرص العمل والقرب من العاصمة والمرافق العامة.
أثر الشيعة هناك انحصر في الذاكرة الجماعية، مع بعض الاستثناءات أحدها ماجدة رمضان، صاحبة «حلويات أراكس». لا يمكن للزائر أن يميزها عن زبائنها، فالجميع يتكلم الأرمنية بطلاقة. ولدت ماجدة في البرج على غرار أهلها، وتزوّجت بشاب ولد بدوره في البرج، وبقيا فيه. أهلها وفدوا من بيروت، أما أهل زوجها فقد وفدوا من منطقة بنت جبيل. برغم الفرز الطائفي الذي أنتجته الحرب الأهلية، رفضت ماجدة (52 عاماً) بأن تغادر منطقتها برغم أنها في أيام معدودة صارت غريبة عنها بسبب اختلاف طائفتها. صمدت بدعم بعض جيرانها الأرمن. ابنها نديم لم يندمج في محيطه بقدر اندماج والدته، برغم أنه تلقّى علومه الأولى في مدرسة أرمنية. يوقن بأن حصة الشيعة في البرج أكبر من حضورهم الحالي الاستثنائي. حتى إنه يعتقد بأنها حملت اسمها من عائلة حمود الجنوبية. فيما هي سُميت على اسم الأمير حمود إرسلان الذي بنى قصراً وبرجاً على تلالها قبل حوالي 300 سنة. «برج حمود جامعة الكلّ» يقول نديم، لكنه لا يخفي الطائفية الدفينة في النفوس «في حين كنا جميعاً في المدرسة في الصغر لا نشعر بالطائفية».