أذكر أنّني كنت طفلاً شغوفاً بكلِّ ما هو غريب، وأنّني كنت أعبر مسرعاً ذاك الزقاق الجميل وأتمهّل أمام بيت من بيوته، لأصغي إلى تلك اللَّكْنَة الغريبة التي يتكلم بها أهله العربيّة مع جيرانهم. كانت أصواتهم تمتلئ حيويةً، لكنّ كلماتهم بطيئة وثقيلة، وخاصة من شفاه الفتيات. كلمات خلقت لي عالماً من الدهشة، عالماً يجعل أذنَيَّ تلتقطان أدنى صوت بمجرد أن أدخل ذاك الزقاق.جَدّتي وبّختني يوماً لأنّها سمعتني أتكلّم عن لهجتهم، لعلّها كانت تعتقد أنّني أسخر منهم. قالت: «عيب، ما بيصير تحكي هيك يا إبني، هدول جيرانّا وغريبين وإلهن حق علينا». ثم اختفوا فجأةً، سمعت من يقول: جيراننا الأرمن هاجروا. سألت جدّتي، فقالت: «الله يهدّي بالهن، ويسّر أمرهُن، ويفك عسرهُن».
واختفت من الزقاق تلك اللّكْنَة التي بقيت محفورةً في وجودي.
عندما دعاني أصدقائي اللبنانيون لتناول سندويش السجق في برج حمود، وجدت نفسي أمام طفولتي، وأنني على وشك أن أعبر ذاك الزقاق. رجوتهم أن نتمشّى قليلاً في الحي، كان يوم أحد، وغالبية المحالّ مقفلة، وكنت في ذلك الوقت أبحث عن سكن، ولذلك لفتت نظري آرمة كُتب عليها: «شقة للإيجار»، وأمامها وقف شخص يسجّل رقم الهاتف، سألته: كم هو إيجار الشقة في المنطقة؟. أجاب: ما بين مئة وخمسين ومئتي دولار. ثم رمقني بنظرة وتابع: لكنّهم لا يؤجّرون إلّا الأرمن! الأمر بيد الطاشناق!. لم نأبه لكلامه، وتابعنا السير علَّنا نجد من يُرشدنا إلى شقة للإيجار. فصادفنا بقّالاً يُنظّف دكانه، سألته: هل تعرف شقة للإيجار؟ فبدأ: السوريين ما خلو شي، خربو كلشي! سأله صديق لبناني: ليش فيهن السوريين يدفعو ميتين دولار؟ أجاب البقّال: إي فيهن، ما بدنا غير يروحو عبلدهن ويفلو عنّا. حينها لم يتمالك الصديق اللبناني نفسه وقال له: والأرمن شو؟ بهت البقّال، وأشاح وجهه ولم يتكلّم بعدها حرفاً واحداً، وارتسمت على شفتي ابتسامة حزينة، تتيه ما بين منطق الكلام وقساوته.
كانت هناك غرابة ما تتكوّن في خلاياي، غرابة لا علاقة لها بذاك الزقاق الجميل، ولا بلَكْنَةِ ساكنيه، غرابة دفعتني لأن أدخل إلى أي سوبرماركت أجدها أمامي، والأصدقاء يلحقون بي، أدخل بحجة شراء قارورة مياه وأسأل: لو سمحت، هل تعرف شقة للإيجار؟ ليبدأ حديثاً لا ينتهي عن السوريين!
-نساؤهم يلتحفن بالملاءات، ورجالهم لم يعتادوا على رؤية ما تلبس نساؤنا!
-البارحة ركضت وراء شخص سرق حقيبة امرأة، كان سوريّاً!
كانوا يتكلّمون العربيّة بطلاقة، لكنّ كلماتهم كانت تنهش جمال أزقة الكون، أحسست بالإعياء وأسرعت بالخروج من الحيّ، ولحق بي الأصدقاء.
قرأت أنّ امرَأ القيس، عندما تسمّم جسدُه وأدرك مصيره، كان إلى جانبه قبرٌ لامرأة، فخاطبها بأبيات منها:
أجارتنا إنّا غريبان ها هنا وكلّ غريب للغريب نسيب
لقد كان الغريب دوماً للغريب أخاً.
لكن ...أرجوكم، في هذا الوجود حياة، ليس من العدل أن تموت.