الأب إميل يعقوب
«تدفعون الكثير لتتوشَّحوا بالذهب، بينما أعضاء المسيح ليس لديهم خبز»! قالها القديس يوحنا الذهبي الفم في القرن الرابع للميلاد، بطريرك القسطنطينيّة، الإنطاكي المولد والهوى. لم يكن كلامه يُعجِب الإمبراطورة أفدوكيا وذوي النفوذ المتوشّحين بالذهب! نُفي مرتين ومات في المنفى وهو يحاول تقويم إعوجاج كنيسة المسيح التي قال عنها المعلّم: «بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (متى 21:13)
الحكاية مستمرة منذ القرن الرابع. وشتّان بين ما قاله السيّد المسيح في الإنجيل وتطبيقات «أولياء أمره»! بين من يلتقط العصا الغليظة ليؤدّب الخارجين عن «المنظومة» الموضوعة في خدمة "النُخَب" الماليّة، ومَن يحرّض في أذن السلطة «لتأديب» الثائرين على الظلم والفقر والجوع، وكل أنواع القمع والاضطهاد.


الطفل المولود في مذود للبهائم أصبح أعظم معلّم للمحبّة والسلام في تاريخ الإنسانيّة؛ تعمّد بدماء أطفال بيت لحم على أيدي هيرودس -السلطة السياسيّة الحاكمة، بتحريض من اليهود- السلطة الماليّة والدينيّة، التي شبّهها المسيح لاحقًا بـ «القبور المكلّسة». والتاريخ يعيد نفسه عندنا وعلى الأرض التي ولد فيها طفل المغارة. نستذكره في زمن الميلاد، ومعه نستذكر كل ما حصل ويحصل ابتعادًا عن الأصل وعن الجوهر، عن أعضاء المسيح -جماعة المؤمنين، الذين يعرفون جيدًا معنى هذه الآيات:
«دعوا الأطفال يأتون إليَّ ولا تمنعوهم لأنَّ لمثل هؤلاء ملكوت السَّماوات» (لوقا 18:16) (متى 19:14).
«إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السَّماوات» (متى 18:3).
لكن الحقيقة على أرض الواقع في فلسطين، هي على عكس ذلك تمامًا. هي الدماء النازفة من الرأس المكلَّل بالشوك والجنب المطعون بحربة، واليدين والرجلين المسمَّرة بالمسامير، إلى الاضطهادات عبر التاريخ إلى العذابات والتشريد، إلى هذا الزَّمن الموبوء بالأضاليل، إلى الحكايات المرويَّة بين الأزقَّة الموحلة، إلى الأطفال المعقودة جباههم بدارهم السليب، وقلوبهم اللاهفة بتصميم العودة.
أين أنت يا طفل المغارة، الوجه المشرقي في عظة الجبل، السائر في دروب الجليل على تخوم جبل حرمون وشواطىء طبريّة وسهول كفرناحوم ومزارع كفرشوبا.
لقد غرَّبوك وباعوك..
الثلاثون من الفضَّة تُرمى إلى اليوم ويُشْترى بها حقل فخار مقبرةً لأهل الدار..
لقد أتيتَ لكي يبصر فاقدو البصيرة وليسمع من ليس لهم آذان للسمع..
ولكي يدرك البشر أنَّ المعرفة قوة وعطاء..
وأنَّ النَّسب غير موجود، والأخوّة في مَن يفعل الرحمة..
لقد أعطيتَ الإنسانيَّة الطريق والحق والحياة
وجاهرتَ بأنَّك ابن الإنسان..
ومهدَّت الطريق ليعبر المتنوّرون بالمحبة إليك..
وأنَّ الجاه والصولجان وغيرها من المظاهر الماديّة البحتة لم تجعلها من نصيبك..
وليس لديك وسادة تسند إليها رأسك بل نبع ماء حيّ من العطاء والبذل والتضحية والفداء..
ولمّا تزل، أنتَ أنتَ، في فلسطين الدامية، جرح ينزُّ وأطفال في العراء..
بيوت تهدّم، أشلاء تُجبل بالتُّراب..
ولمّا يزل جسر العودة قائماً في النفوس وفوق الهضاب الخفيّة..
وأنت القائل: «كل مكتوم سيُعلن وكل خفيّ سيظهر» (متى 26:10)
نحن ننتظر الموعد ويوم ميلادك في القلوب المتحجّرة، علّها تلين ويتغيّر مسار القتل والسلب..
فنعيش ملكوت السماء على الأرض.
ويتحقّق الزمن الخلاصي المنتظر.