تواصل القوى الأمنية التحقيق في حادثة التسمّم التي أودت بحياة الطفلتين رزان وريان في مدينة صيدا. وقد تناقضت نتائج الفحص المخبري لعيّنات الدم التي أُجريت في المختبر المركزي مع تلك التي أجرتها وزارة الصحة العامة (راجع الأخبار: تسمّم الطفلتين في صيدا: نتيجتان للعيّنات!). ومن المفترض أن يعتمد الاستنتاج حول وجود نيّة جرمية من عدمه، على مجموعة واسعة من مواد التحقيق تشمل الفحوصات المخبرية، معاينة المنزل، أخذ عيّنات عن المواد الأولية التي تستخدم في تحضير الطعام، معاينة الأواني والأدوات التي تستخدم للطبخ، الكشف الدقيق على المنطقة المحيطة بالمنزل، وأخذ ماسحات قطنية من مختلف أرجاء المنزل وخارجه.
إضافة إلى ذلك، من الضروري أخذ العيّنات المناسبة من أنسجة الجثث قبل أن يصبح الأمر مستحيلًا بسبب التعفّن والتلوّث، وذلك للكشف عن القيمة التشخيصية للمبيدات الحشرية في حال وجودها وتحديد مقدارها وقيمتها الدلالية. كما من المهم جمع عيّنات: الدم الوريدي، الكبد، الرئة، الكلى، الدماغ، نخاع العظام والأحشاء. ومن جهة أخرى، يفترض مراجعة السجل الطبي للضحيتين ووالديهما، وإجراء مقابلات مع كل الأشخاص الذين يمكن أن يفيدوا التحقيق كالطبيب، المعلّمات، الجيران وغيرهم.



التسمّم الغذائي
تقسم دائرة التغذية في وزارة الصحة العامة التسمّم الغذائي إلى:
- تسمّم بیولوجي ناجم عن تناول غذاء یحتوي على كمیة من المیكروبات الممرضة أو السموم الناتجة منها أو كلتيهما معاً، ما یؤدي إلى حالات تسمّم فردیة أو جماعیة. تلوّث المیكروبات الطعام عن طریق الأیدي أو السطوح، أو فوَط التنظیف غیر النظیفة وغیر المعقمة، أو احتكاك طعام نيّئ أو استعمال أدوات وأوان غیر نظیفة. كذلك، یؤدي سوء تخزین الأطعمة أو عدم طهیها جیداً إلى نموّ الميكروبات وتكاثرها فیها.
- تسمّم كیمیائي ناجم عن تناول غذاء ملوّث بالكیماویات كالمبیدات الحشریة التي تحوي مواد يختلف تركيبها الكيماوي بشكل كبير، ومنها مركبات الكلور ومركبات الفوسفات العضوية الأكثر شيوعاً واستعمالاً هذه الأيام.
- تسمّم فیزیائي ناجم عن استهلاك أغذیة تحتوي على شوائب أو أجسام غریبة عن طبیعة المنتج الغذائي، كالبلاستيك (عادة من التعبئة والتغليف)، الأوساخ (من المنتجات الطازجة التي لم تُغسَل بشكل كاف)، قطع من الزجاج المكسور وغيرها.

تسمّم عرضي وظروف مؤاتية
للسموم التي تنشأ من الكائنات الدقيقة (التسمّم البيولوجي) دور مهم في العلوم الجنائية. إذ إن الأمراض التي تنقلها الأغذية تكون في معظم الأحيان على شكل تسمّم عرضي. ومن المهم أن تتأكد الوحدة المختصة في وزارة الصحة من طبيعة الوفاة واكتشاف العامل المسبب، بحيث لا يكون هناك حاجة إلى تدخل القضاء، ولا سيّما أن الاوضاع في لبنان تشكل بيئة خصبة لازدياد حالات التسمّم الغذائي من النوع البيولوجي. فمع غياب شبكة منظّمة للصرف الصحي وسوء إدارة النفايات، تتلوث مياه الري والشرب وتنتشر الميكروبات الممرضة كبكتيريا السلمونيلا وفيروس الكوليرا. ومع غياب الكهرباء وعدم حفظ المواد الغذائية بالشكل الآمن والسليم، تصبح الأطعمة غير صالحة للاستهلاك بسبب نمو الجراثيم والميكروبات. أضف إلى ذلك، استغلال بعض التجار للأزمة الاقتصادية والتسويق لمواد فاسدة كاللحوم والدجاج بأسعار أقل.
وفي حين أن التسمّم البيولوجي لا يعدّ في معظم الأحيان جنائياً، إلا أن الأمراض التي تنقلها الأغذية عن طريق إضافة مبيدات الآفات أو الأدوية إلى الطعام (التسمّم الكيميائي) تستدعي التوسع في التحقيقات الجنائية لتحديد ما إذا كان الحادث عرضياً (الاتصال بين الطعام والآفات، وخاصة القوارض والذباب والصراصير، التي تشكّل سبباً آخر لتلوث الطعام)، أو جنائياً عبر تلوث متعمّد للطعام.



تسمم جنائي؟
يمكن أن تحدث الملوثات الكيميائية في المواد الغذائية في أغلب الأحيان نتيجة استخدام الكيماويات الزراعية، مبيدات الحشرات، والأدوية البيطرية. ومن وجهة نظر علم السموم الجنائي، يمكن أن يحدث التلوث الغذائي الكيميائي نتيجة تدخل جنائي (قتل أو انتحار) أو بسبب أخطاء قد تكون قاتلة (حادث عرضي).
توفّر التحقيقات الجنائية للأغذية نهجاً علميًا للتحقيق في القضايا العاجلة المتعلقة بالأغذية والمكوّنات، وتهدف إلى الكشف عن وجود مواد غريبة، وتحديد كميتها، وقيمتها الدلالية.
كمؤشر للتحليل الجنائي للكشف عن السموم ولتحديد تركيز المادة الكيميائية السامة عند المستويات المرتفعة، عادة ما تتم ملاحظة التغييرات في مظهر الطعام (الرائحة الكيميائية مثل الكلور، الأمونيا، كبريتيد الهيدروجين، والمذيبات العضوية)، وأعراض اضطرابات الجهاز الهضمي (ألم بطن، إسهال، غثيان) لدى الضحايا.
يتم إجراء تحليل كمّي للمواد الغذائية وللمواد الغريبة (أو الموجودة بشكل طبيعي، المضافة إلى الطعام بكميات متزايدة) بقدر الإمكان. كما يتم إجراء الفحوصات المخبرية للكشف عن تلوث الأغذية بالعقاقير المخدرة والأدوية، المبيدات الحشرية، المنظفات، وكذلك الزئبق المعدني والسيانيدات والنترات.
التسمّم البيولوجي لا يعدّ في معظم الأحيان جنائياً، إلا أن التسمّم الكيميائي يستدعي توسّعاً في التحقيقات الجنائية


في هذه الحالات من التسمّم الغذائي، من المفترض أن تشارك جهات التحقيق وهيئات التفتيش الصحي للدولة. وفي حالة الوفاة بسبب التسمّم الغذائي، يفترض تشريح جثة المتوفى، واستكماله بدراسات معملية (Laboratory studies): الدراسات المعملية الكيميائية والميكروسكوبية والبكتريولوجية والبيولوجية والنباتية وغيرها من بقايا الطعام. إضافة إلى أنّ في كثير من التحقيقات، حيث يكون سبب الوفاة محل شك، فإن محتويات معدة الإنسان قد تُقدم أدلة لا يمكن ملاحظتها عادةً. ففي معظم عمليات تشريح الجثث، تعدّ محتويات المعدة جزءًا مهمًا من الأدلة، ويمكن أن تثبت أحيانًا أنها الفرق بين الموت العرضي والتلاعب المتعمّد بالطعام. كما يمكن أن تكشف ما إذا كان المتوفى قد اختبر أيّ شكل من أشكال الأدوية أو الأطعمة الغريبة، ما قد يؤدي إلى حالة تسمّم داخلي.
كذلك يُفترض معاينة أطباق الطعام والأدوات والمعدّات التي جرى تحضيره بها، ومساحيق التنظيف، والمواد الأولية التي جرى استخدامها، والحاويات التي يتم تخزينه فيها.

الاحتيال الغذائي
يعدّ الاحتيال في مجال الغذاء جريمة خطيرة مدفوعة بالمكاسب الاقتصادية التي يمكن أن تحدث بأشكال عديدة. يمكن الاحتيال على المنتجات الغذائية عن طريق «التخفيف» باستخدام عوامل سائبة متشابهة غير مصرّح بها، أو عبر إضافة موادّ أو إضافات محظورة لأسباب متعلقة بالصحة، وقد تتوصل التحقيقات العلمية إلى وجود فساد جرثومي يسبّب تسمّماً غذائياً أو حتى الكشف عن غش متعمّد لإلحاق الضرر أو الاحتيال لتحقيق مكاسب مالية.
من جهة أخرى، تجري شركات الأغذية تحقيقات داخلية لأسباب عديدة بهدف حماية سمعة الشركة ومسؤوليتها. تسمى هذه التحقيقات Food Forensics، وتهدف إلى تحديد المشكلات التي ربما تكون قد أثّرت على جودة منتجاتها وسلامتها، أو استجابة لشكاوى المستهلكين. قد تنطوي المشاكل على وجود مواد غريبة أو ملوثات في المواد الأولية والمنتجات النهائية كمشاكل الروائح الكريهة والنكهات.



محتويات المعدة لتحديد وقت الوفاة
بالنظر إلى أن عملية امتصاص الطعام في الجسم تستغرق وقتًا طويلاً، فإن محتويات المعدة -وخاصة حالتها وقت تشريح الجثة- يمكن أن تساعد في تقدير وقت الوفاة. كما يمكن استخدامها لإثبات ما إذا كان المهاجم قد أغوى المتوفى بإحساس زائف بالأمان من خلال تناول وجبة معه. وخير مثال على ذلك هو ما إذا كانت محتويات معدة المتوفى تتكون من نوع من البيتزا. سيستغرق هضم البيتزا ما يقرب من ساعتين داخل المعدة، وإذا تم إجراء تشريح للجثة وأظهر أن البيتزا لا تزال في المعدة، فسيكون من الآمن افتراض وفاة المتوفى في غضون ساعتين قبل اكتشافه.


أعراض متفاوتة
تتراوح الأعراض من خفيفة إلى شديدة، وقد تستمر من بضع ساعات إلى عدة أيام. وتشمل الأعراض الشائعة للتسمّم الغذائي: الإسهال، التقيؤ، ألم في البطن، حُمى، وصداع الرأس. كما يمكن لبعض أنواع التسمم الغذائي -مثل التسمّم الغذائي الناجم عن بكتيريا (البوتولينوم) التي تنمو على لحوم معلّبة وغير معقمة وتسمّم الأسماك والمحار- أن تؤثر على الجهاز العصبي، وقد تشمل الأعراض: عدم وضوح الرؤية والشلل. ومع ذلك، يمكن أن يسبب التسمّم الغذائي الموت في بعض الحالات، ولا سيّما لدى الأطفال وكبار السن والأشخاص الذين يعانون من نقص المناعة. وفي حين أن بعض الأفراد لا تظهر عليهم أعراض بعد تناول نفس الطعام الملوث، قد يعاني آخرون من أعراض شديدة. ما يحدد تلك العوارض هو مقدار تلوث الطعام، والكمية المستهلكة وحساسية الفرد.