كرّس الدستور اللبناني مبدأ الفصل بين السلطات (تنفيذية تشريعية وقضائية). وهو فصل قائم على التوازن بينها من حيث وظائفها وتعاونها، من دون أن تطغى أي سلطة على أخرى. هذا من الناحية النظرية، أما الواقع فمغاير لكل ما جاء في النصوص القانونية، ويطوّع كل مقوّمات الدولة لتراعي التوازن الطائفي لا التوازن بين عمل المؤسّسات خدمة للصالح العام. إن نصف أعضاء مجلس القضاء الأعلى الذي يعيّن المجلس التأديبي، يُعيَّنون بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل. ويراعى في تعيينهم التوزيع الطائفي والسياسي بالدرجة الأولى. وهذا يدلّ على تحكّم السلطة التنفيذية بالسلطة القضائية، ما يكبّل عمل القضاء ويقوّضه.

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

قانون إستقلالية القضاء غائب في أدراج المجلس النيابي منذ سنوات طويلة، ولم تشفع له كل المناشدات والمطالبات والإضرابات التي نادت بأهمية إقراره للخروج من براثن تحكّم السلطة السياسية بالسلطة القضائية، التي كانت أحد أكبر المسؤولين عن الأزمة الاقتصادية التي وصلنا إليها نتيجة التغاضي عن تحريك دعاوى الحق العام في مئات قضايا الفساد.
لم نشهد خلال ثلاث سنوات من الصراع المحتدم بين المودعين والمصارف، والذي وصل إلى حد احتجاز الرهائن لاستيفاء الحق بالذات، أي قرار بوجه المصارف، نتيجة سيطرة السلطة السياسية على السلطة القضائية. بل كان لافتاً تحرك القضاء في وجه المودعين وملاحقة المتظاهرين ومحاكمتهم بجرائم الإخلال بأمن الدولة ومعاملة رجال قوى الأمن بشدة، في ظرف تنطبق عليه عناصر القوة القاهرة أو حالة الضرورة. وفي المقابل، لم يصدر أي قرار يحمي المواطنين من شتى أنواع الانتهاكات والسرقات التي تعرضوا ويتعرضون لها من منظومة الفساد التي تحكمنا، رغم لجوء العشرات إلى التقدم بإخبارات أمام النيابات العامة، وكأن كل ما يرتكب بحق شعب كامل يجري في كوكب آخر لا علم للسلطة القضائية به.
وما زاد الطين بلة إعلان السلطة القضائية، منذ أكثر من ستة أشهر، إعتكافاً عن إحقاق الحق، وتوقفها عن البت في قضايا الناس. وبذلك، تُرتكب جرائم متعددة بحق المتقاضين عن سابق تصوّر وتصميم، بالتمنّع عن البت في ملفاتهم وتضييع حقوقهم وتركهم من دون أي حماية، وترك المئات محتجزين في النظارات والسجون في أسوأ ظرف معيشي وصحي وإنساني.
نصف أعضاء مجلس القضاء الأعلى يُعيَّنون بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل


كل هذه الارتكابات لم تحرّك لدى السلطة القضائية ساكناً، إلى أن قرر أعضاء المجلس التأديبي الذي يعيّنه مجلس القضاء الأعلى محاسبة قضاة «مقصّرين» ووقفهم عن العمل. وهو دور منتظر منذ سنين لمجلس من واجبه تطبيق قواعد العدل والانصاف في كل قراراته لتصويب العمل القضائي، وضبط كفة ميزان العدالة. لكن، في ظل أزمة غير مسبوقة من الانتهاكات الجماعية للسلطة السياسية بحق كل شرائح المجتمع ومؤسّسات الدولة التي أُنهكت دون أن يحرك القضاء ساكناً، وإصدار قرارات تأديب ووقف عن العمل لبعض القضاة الذين قرروا التغريد خارج السرب ربما أو لخروجهم عن الصمت الوظيفي والتصريح بما هو ممنوع في حالات السلم وانتظام العمل وانتظام المحاسبة والمساءلة.. فهو أمر لا يفسّر إلا بعكس ظاهره، أي إنه ليس تأديباً بل ترهيب من السلطة السياسية لبعض السلطة القضائية قبل عودتها للعمل ووقوفها مجدداً للحكم باسم الشعب اللبناني، وإخراج مئات الملفات العالقة في وجه المصارف ومن خلفها، وفي وجه الفاسدين من كل الألوان. فإمّا الحكم بالعدل باسم الشعب وإمّا على الدولة السلام.